أزمات الغرب وحروب الشرق
د. أحمد القديدي
لم أستطع التخلص من هاجس قديم يعود إلى ذاكرتي كلما تعقد الوضع في مشرقنا الإسلامي مثلما يحدث هذه الأيام من بلوغنا درجة غير مسبوقة من العنف والصراعات الأهلية والتدخلات الأجنبية، لعل أبرزها التهديد باتساع رقعة الأزمات بين روسيا وتركيا وبين إيران والعرب وبين أمريكا وروسيا وبين الكل والكل ومع جولات الرئيس الفرنسي مصحوبا بحاملة طائراته تحت شعارات متشابهة وهي محاربة الإرهاب، رغم أن لكل طرف إرهابه الخاص ومفهومه الذاتي للإرهاب ولاحظنا الانحراف الذي وقع فيه بوتين حين اتهم أردوغان بأسلمة تركيا كأنما تركيا وثنية تنتظر أن يؤسلمها أردوغان. وهو ما يؤكد أن الخلفية الدينية تعلو على المصالح الإستراتيجية للدول كما كان الشأن دائما في صدام الحضارات. نعود إلى هاجسي الذي انطلقت منه وهو نظرية (لاروش) ولاروش لمن لا يعرفه (يمكن الدخول على جوجل وكتابة اسمه) هو مفكر وسياسي ورجل اقتصاد أمريكي كان مرشحا للرئاسة وكنت تعرفت عليه في الثمانينيات وقابلته العديد من المرات في أمريكا وألمانيا وفرنسا. ولديه نظرية سياسية وإستراتيجية لم تلفت الأنظار حين أطلقها في السبعينيات، لكنها بدأت تتحقق اليوم بوضوح. تقول النظرية التي تحمل اسمه إنه كلما ظهرت معضلة اقتصادية أو سياسية أو حتى جوائح طبيعية في الغرب إلا وقامت حرب في الشرق الأوسط أو في إفريقيا أو في آسيا. وفي إحدى محاوراتي للسيد (لندن لاروش) في بيته في مدينة (فيزبادن الألمانية) منذ سنوات حول نظريته قال لي: ارجع إلى الأسباب الحقيقية للحروب الصليبية وانطلاقها من دعوة البابا (يوربان الثاني) في كاتدرائية (كليرمون فيران) الفرنسية سنة 1095م لتنظيم ائتلاف أوروبي وغزو المشرق بتعلة إنقاذ أكفان السيد المسيح من أيادي (الكفار)، أي المسلمين، واحتلال القدس وذلك بعد انتشار وباء مرض (بيرينوفورا) سنة 1093 في أغلب سهول الزراعات الكبرى فأهلك المحاصيل إلى درجة حدوث مجاعات لدى الفلاحين ونزوح مئات الآلاف منهم إلى المدن الأوروبية واستفحال أزمات قاسية وعنيفة أدت إلى تمردات إقليمية وانتشار الفوضى وقطع الطرقات في كل الأقطار الأوروبية، مما اضطر الملوك الخائفين على عروشهم إلى التخطيط لتهجير مئات الآلاف من الأوروبيين إلى الشرق وامتصاص نقمتهم بتعلة محاربة المسلمين وسلم البابا صكوك الغفران للمجندين وتم ذلك بالفعل بحجج صليبية ودامت الحملات قرنين من الزمان إلى غاية موت ملك فرنسا زعيم الفرنجة (لويس التاسع) الملقب بالقديس لويس في قرطاج سنة 1270م. ثم جاءت سنة 1798 في باريس وبلغ الصراع بين الطامعين في الحكم درجة الصراع الأهلي المسلح بين حزب نابليون بونابرت وحزب ما كان يعرف بالديركتوار (أي المجلس الحاكم)، فاغتنم هذا المجلس طموحات نابليون المرضية الوسواسية لدفعه إلى قيادة حملة عسكرية و(علمية!)، إلى مصر والشام بحجة قطع طريق الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط بينها وبين مستعمراتها الهندية ثم إنقاذ التراث الفرعوني بجلب كنوزه إلى متاحف باريس (أي عصفورين بحجر واحد). وبالفعل جهز الجنرال الطموح نابليون جيشا جرارا وعلماء آثار ونزل بالقاهرة، حيث قتل آلاف العلماء والشباب المصريين في أكتوبر 1799 واغتيل الجنرال (كليبير) على أيدي الإسلامي الشامي سليمان الحلبي وانتهت الحملة بفشل ذريع وهرب نابليون إلى باريس ثم استولى على السلطة وتوج نفسه إمبراطورا. وكانت تلك الحملة الدموية بداية عهد الاستعمار التوطيني التبشيري الذي انتهى مع استقلال الجزائر سنة 1961. وإذا حللنا استعمار الجزائر نفسه سنة 1830 اكتشفنا أن فرنسا كانت في حالة إفلاس الدولة، حيث اقترضت الدولة الفرنسية من الدولة الجزائرية عشرين مليون فرنك (نعم أيها القارئ العزيز كنا.
نحن العرب، نقرض وأوروبا تقترض قبل أن يبتلينا الله بنخب مستنسخة) وحين أزف موعد تسديد القرض أرسلت فرنسا قنصلها السيد (ديفال) إلى حاكم الجزائر والي الخلافة الإسلامية الداي حسين سنة 1828 فاستفز الداي وتلفظ بعبارات لا تليق فنهره الداي وطرده من مجلسه وهو ما خطط له ملك فرنسا (شارل العاشر) فأرسل جيشه يحاصر الجزائر لمدة سنتين وانتهى الأمر باحتلال عسكري دموي دشن عهد الاستعمار الفرنسي الغاشم للمغرب الإسلامي، لا لشيء إلا لأن باريس عجزت عن تسديد ديون متخلدة بذمتها فاستعمرت الدولة المدينة الدولة الدائنة ولكن الحجة التي قدمها ملك فرنسا هي (إهانة مبعوث فرنسا في بلاط الداي الجزائري!). هذا هو التاريخ!، وهذه نظرية (لاروش) التي تعززت اليوم بشكل ساطع: السيناريو الكارثي جاهز، على ما يبدو، والوثائق السرية والعلنية لا تكذب نظرية لاروش. نبدأ بقراءة متأنية للتاريخ والاعتبار بدروسه القاسية لنكتشف بأن كل حرب مدمرة في الشرق نشأت عن أزمة عصيبة في الغرب. ونحن اليوم بإزاء أزمة عصيبة تعصف رياحها باقتصاد الولايات المتحدة (عملة وصناعة) وبفضاء اليورو في الاتحاد الأوروبي. لعلها بدأت سنة 2008 بانهيار خطير لمصرف (جولدمان ساش) بعد الغش والتلاعب بالإحصاءات وأعلن المصرف شبه إفلاس أعقبه ركود في صناعة الأسلحة وتحركت حكومة الظل في (مانهاتن) لتبدأ بابتكار الفوضى الخلاقة وتغذية الطائفية في العراق وسوريا ثم تحييد إيران بمعاهدة النووي في فيينا وتحريك المارد الكردي في كل من تركيا وسوريا والعراق وإيران وربما السكوت عن ظاهرة داعش حتى يترعرع هذا الكائن الهلامي ويخيف الجميع ثم الإعلان عن حرب شاملة ضد ما يوصف بالإرهاب.
المصدر: صحيفة الشرق القطرية