أيّ مخاض جديد للعراق بعد الفلّوجة؟
د. عبد الحسين شعبان
جميع المؤشّرات السياسية والعسكرية، العراقية والدولية، تشير إلى أن هزيمة داعش في الفلّوجة ستكون محقّقة، فقد حوصرت المدينة منذ أكثر من 9 أشهر، وأن الغالبية السّاحقة من سكانها غادروها (بحدود 400 – 500 ألف نسمة)، وما تبقّى منهم بحدود 50 ألف نسمة، وهؤلاء لم يتمكّنوا من مغادرتها آنذاك، وهم اليوم يناشدون القوات العراقية والمجتمع الدولي لتأمين ممرّات آمنة لهم، علماً بأن قسماً منهم يتم استخدامهم من قبل داعش كدروع بشرية، كما قام داعش بتشكيل فرق للموت، لاغتيال العوائل التي تفرّ من الفلّوجة، وروت عوائل هاربة قصصاً مروّعة عن معاناة هذه المدينة المختطفة ومأساة أهلها، وهو ما أكّدته تقارير الأمم المتحدة التي ناشدت الجميع لحماية حياة المدنيين.
وتشير المعلومات إلى أنّ معنويات داعش متراجعة جداً، لا سيّما بعد الخسائر التي مُني بها في هيت وكبيسة وحديثة والقائم والرمادي، على الرغم من أنه لم يفقد زمام المبادرة كليّاً، لكنه قد يلتجىء إلى بعض ردود الفعل اليائسة، كما حصل في هجومه الأخير على هيت بعد تحريرها، أو سلسلة التفجيرات والعمليات الانتحارية الإرهابية التي قام بها في بغداد، ومناطق أخرى غداة المعركة لتحرير الفلّوجة.
وإذا كادت هذه الصورة تلقى شبه إجماع من الخبراء الاستراتيجيين والمحلّلين السياسيين والمتابعين العارفين لظروف الصّراع في المنطقة، فإن الاختلاف بينهم واسعاً والبون شاسعاً والافتراق كبيراً، بالنّظر إلى مستقبل المنطقة ما بعد تحرير الفلّوجة أو حتى بعد تحرير الموصل الذي سيتمّ إنْ عاجلاً أو آجلاً، لأن داعش ضدّ منطق الحياة، وضدّ التطوّر، وأنه لا يمكنها حكم مدينة عريقة مثل الموصل بالنار والحديد إلى ما لا نهاية، كما أنه لا يمكن أن يواجه قوات التحالف الدولي والقوات العراقية وقوات البشمركة وقوات أخرى غير نظامية، بمن فيهم من أبناء المنطقة الذين تمّ تدريبهم وتسليحهم من جانب الولايات المتحدة.
إن صورة الفلّوجة وحتى صورة الموصل، ما بعد التحرير ستكون متباينة لدرجة التعارض، ليس بخصوص المدينتين فحسب، بل بخصوص المخاض العراقي ككلّ، والذي ظلّ شديد التعسّر خلال الفترة الماضية، وسيكون الأمر مطروحاً بحدّة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، فكيف سيُدار العراق؟ وماذا عن العملية السياسية المحاصصاتية الطائفية – الإثنية؟ فهل سيتمّ تجاوزها أم العودة إليها؟ وهل هناك خريطة جديدة للعراق إذا كانت خريطة سايكس بيكو التي مضى عليها 100 عام، قد اهترأت، والمسألة لا تتعلّق بالعراق وحده، بل بدول المنطقة؟ وهو ما يستدعي السؤال مجدّداً: هل ستُرسم خرائط جديدة بعد التطوّرات الأخيرة، أم ستتمّ عودة القديم إلى قدمه؟
وثمّة احتمالات حسب الدراسات المستقبلية، فإمّا أن يستمرّ الحال على ما هو عليه لفترة أخرى، مثلاً لمدة خمس أو عشر سنوات، حيث يبقى الوضع يدور في إطار المراوحة، أو أن يحدث تراجعاً باتجاه وحدة الدولة والحكم المركزي، فهناك من يقول إنه بعد تحرير الموصل وانتشالها من أيدي داعش، وتحرير بقية الأراضي العراقية، يمكن أن تتعزّز قدرات الجيش وإمكانات العراق ككلّ، لا سيّما إذا استطاع تجاوز أزمته الاقتصادية وتحلحل أزمته السياسية، وهناك احتمال ثالث هو أن التطوّرات الحاصلة والتنازع على مناطق النفوذ، تجعل من فكرة الأقاليم الاتحادية، تحصيل حاصل للتحلّل من قبضة بغداد، وبالتالي من هيّمنة الأحزاب الشيعية على مقاليد الأمر، بالنسبة للسنيّة السياسية، وكذلك بالنسبة للأكراد، فإن منسوب المطالبة بالاستقلال سيرتفع وصولاً إلى إعلان الدولة.
وإذا افترضنا بقاء الحال كما هو عليه، فإن سؤالاً يتفرّع عن هذا المحور: هل ستبقى الموصل والأنبار وصلاح الدين في إطار التقسيمات الإدارية السابقة، وماذا بشأن كركوك وديالى وحزام بغداد؟ أم أنها ستفكّر باتباع طريق اللاّمركزية والفيدرالية، حسبما قرّره دستور العام 2005؟ وهو الأمر الذي ظلّت بعض النخب من السنّية السياسية تدعو إليه تلميحاً أو تصريحاً، وأحياناً كردّ فعل على ممارسات للتسيّد الطائفي الشيعي للقوى الحاكمة. وقد يلقى هذا الأمر دعماً عربياً ودولياً ومن بعض القوى الإقليمية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
وبالترابط مع البحث في مستقبل المناطق الغربية – الشمالية ذات الأغلبية العربية – السنيّة الحاسمة، فالأمر أيضاً له علاقة باحتكاكات من نوع آخر عربية – كردية – تركمانية، والصراعات من هذا النوع تشكّل ألغاماً قد تنفجر في أي لحظة، وخصوصاً في محافظة كركوك وبعض مدن محافظة ديالى، ولا سيّما خانقين ومندلي وبعض أقضية ونواحي محافظة صلاح الدين، إضافة إلى محافظة الموصل ذاتها، سواء في المدينة وأطرافها أو قضاء تلعفر وغيره.
وقد شهدت بعض مدن ديالى وقضاء طوزخورماتو، مؤخّراً عمليات عنف وتفجيرات لأماكن العبادة واغتيالات وإجلاء سكاني وتطهير مذهبي في ظلّ هيّمنة ميليشيات ومسلّحين غير نظاميين، على الرغم من الصراع ضد داعش، الأمر الذي يعني أن الصراع على النفوذ، وما يسمّى المناطق المتنازع عليها يمكن أن يتأجّج، في ظل هشاشة الوضع الراهن، وكلٌ يغنّي على ليلاه – كما يُقال – وهو ما ينذر باحتمالات تصاعد حدّة العنف في هذه المناطق، إنْ لم يتم تطويق الخلافات واللّجوء إلى الحوار والحلول السلمية.
ولعلّ هذه اللّوحة المتداخلة المتصارعة هي التي تدفعنا للتساؤل: هل سيبقى العراق موحّداً؟ وكيف يمكن إدارته في ظلّ الأزمة السياسية الطاحنة التي تلفّه منذ عدّة أشهر، والتي أدّت من جانب كتل بشرية غاضبة، تذكّر بعصر المداخن، لاقتحام المنطقة الخضراء، والإطاحة بهيبة الدولة، ولولا دعم واشنطن وطهران لما تمكّنت العملية السياسية من الاستمرار في مواجهة العواصف الهائجة التي كادت أن تقتلعها.
لقد وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، وهذا الأمر ليس استنتاجاً من جانب قوى وجهات إقليمية أو دولية أو محلية لا تقف على أرضية واحدة مع الحكومة العراقية والقوى المشاركة في العملية السياسية، ولكنه أمرٌ يقرّه أركان العملية السياسية ذاتها بلا استثناء، وإنْ كان كل واحد منهم يحاول أن يرمي مسؤوليتها على الآخر. والجميع يعترف بفشل نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية الذي قام على الزبائنية السياسية والغنائمية المذهبية.
فالكرد الذي يعتبرهم البعض مستفيدين، إلاّ أن العلاقة مع بغداد ازدادت صعوبة وتعقيداً في السنوات الأخيرة، سواء ما يتعلّق بملف النفط أو حصة الإقليم من الواردات. أما الجماعات والكتل الشيعية بما فيها حزب الدعوة الحاكم، فهو الآخر، ومن خلال رئيس الوزراء، يريد عبور نظام المحاصصة، ولكن بالطبع يسعى لإبقاء القدح المعلاّ بأيديه، وحتى نوري المالكي الذي حكم لدورتين 2006 – 2014، يعلن صراحة عن فشل هذا النظام، فما بالك بالقوى السنية – السياسية والمحافظات الغربية – الشمالية، التي تعرّضت إلى إذلال مزدوج، فمن جهة عليها القبول بكونها “أقلية“، وعليها من جهة ثانية تحمّل تبعات النظام السابق وانتهاكاته، فضلاً عمّا تعرّضت له من استباحات وأعمال قمع وإخضاع، بزعم أن مناطقهم بؤرة للإرهاب.
لقد عاشت الفلّوجة قصة مرعبة طيلة السنوات الثلاثة عشر الماضية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حيث تعرّضت للتنكيل بعد مواجهتها لجنود أمريكيين، ثم قامت القوات الأمريكية باستباحتها بعد محاصرتها العام 2004، وحصل الأمر من جانب القوات الحكومية وبمساعدة أمريكية مرّة أخرى في أواخر العام ذاته، وتعرّضت للأذى خلال صراع الصّحوات ومواجهة تنظيم القاعدة، وبعد ذلك خلال حركة الاحتجاج التي شهدتها المناطق الغربية، ثم اختطفت المدينة في 2 يناير (كانون الثاني) 2014، أي قبل احتلال الموصل بنحو ستة أشهر.
ونُكبت الفلّوجة حين ترك الغالبية الساحقة من أهاليها منازلهم، وفرّوا هاربين في رحلة نزوح مروّعة، وعاشوا ظروفاً مأساوية مرعبة باعتراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، وسواء من وصل منهم إلى كردستان أو من اقترب من مشارف بغداد، فقد كانت ظروف حياتهم قاسية، والأسوأ من ذلك حين تم منعهم من الدخول إلى بغداد، والطلب إليهم تأمين كفلاء لهم، بزعم احتمال تسرّب بعض مقاتلي داعش عبرهم، وهم الهاربون من داعش، وتلك ليست سوى إحدى المفارقات الدرامية الكوميدية في الوضع العراقي.
وإذا كانت معاناة النازحين تتعلّق بتوفير سبل العيش وتحسين ظروف الحياة ووصول الرواتب للموظفين وحل بعض مشاكل التربية والتعليم للأبناء وقضايا الصحة، ومشكلات مثل البيئة الجديدة واللغة، فإن معاناة المتبقين تتعلق بحماية حياتهم وتوفير ممرّات آمنة لاستقبالهم وإيوائهم. ولعلّ هذا الجانب الإنساني والقانوني، لا بدّ من مراعاته حتى خلال المعارك طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، والمقصود بذلك حماية السكان المدنيين، طبقاً للبروتوكول الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني – الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
المخاض الذي ينتظر العراق ما بعد الفلّوجة، قد يكون طويلاً وقاسياً، ويتوقّف عليه إمّا فتح صفحة جديدة ما بعد التحرير، بتعزيز الوضع في بغداد ومعالجة المشكلات المتراكمة، بإجراء إصلاح جذري خارج نظام المحاصصة، وهو أمرٌ لا تتوفّر إرادة سياسية موحّدة له، ناهيك عن قناعة حقيقية به حتى الآن، أو أن يتفكّك الوضع تدريجياً باتجاه التقسيم الذي سيتمّ تبريره باعتباره “أحسن الحلول السّيـئة”، وخصوصاً إذا ما احتدم الصّراع بين الأطراف السياسية واتّخذ طابعاً عنفياً، عندها سيكون التّقسيم “أمراً واقعاً”، ولكن بعد أن تُنهك جميع الأطراف في سباقها الماراثوني الذي هو أقرب إلى المصارعة على الطريقة الرومانية، التي تنتهي بموت أحدهم، ووصول الآخر إلى حافة الموت بعد بلوغه درجة إعياء تفقده السيطرة على نفسه.