أي ثمن لتحرير الفلّوجة..!؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
بعد انتهاء مهلة الـ 48 ساعة التي أعطاها رئيس الوزراء حيدر العبادي لاقتحام الفلّوجة، توقّفت العمليات العسكرية على نحو مفاجىء، واقتصرت على الضربات الجويّة التي تقوم بها قوّات التحالف الدولي.
وجاء هذا التطوّر بعد أن اضطرّت قوات “النخبة” للانسحاب باتجاه جنوب الفلّوجة، حيث تعرّضت إلى هجوم مباغت، وكان داعش قد شنّ عملية عسكرية خاطفة ضد القوات العراقية “الخاصة”، من الخلف. وعلى الرغم من تأكيد العبادي أنّ المعركة لن تتوقف وأننا سنشهد قريباً ارتفاع العلم العراقي فوق الفلّوجة، فإنّ ما حصل من تراجع يؤكّد على محاولة داعش الإمساك بزمام المبادرة من جديد، بعد أن أصيب بخسائر كبيرة، إضافة إلى تدهور معنويات مقاتليه.
وكان داعش قد شنّ هجوماً على الجيش وقوات الحشد الشعبي وقتل منهم نحو 40 عنصراً، إضافة إلى قيامه بثلاث عمليات انتحارية شمال الفلّوجة (ناحية الصقلاوية)، واشتباكه بمحيط جامعة الفلّوجة (جنوب شرقها). علماً بأنه باشر بعددٍ من العمليات الانتحارية في بغداد عشية المعركة في الفلوجة.
وتقدّر بعض الجهات المراقبة أن عدد القتلى والشهداء من الجانب الحكومي بلغ 1000 شخص، منذ بداية عملية تحرير الفلّوجة وحتى الآن.
وعلى الرغم من الخسائر والتضحيات في المعركة ضدّ داعش ولتحرير الفلّوجة، فإن الجدل ما يزال محتدماً والنقاش مفتوحاً لدرجة الاتّهامات بين الفرقاء والكتل السياسية، فمنهم من يعتبر الحشد الشعبي لا يقل خطورة عن داعش، لا سيّما محاولة التطهير الطائفي والانتقام والثأر من مدينة الفلّوجة بالذات، التي يعتبرونها “رأس الأفعى” ومصدر “الإرهاب”، في حين هناك من يعظّم من شأن الحشد الشعبي ويقول: لولاه لما أمكن تحرير مناطق الأنبار وصلاح الدين، ووضع حد لتمدّد داعش التي كانت على مشارف بغداد، بل إنه سيكون له الفضل في القضاء عليه وتحرير الموصل.
وبغض النّظر عن الاستقطابات الحادّة في الوضع العراقي بشكل عام، وبخصوص الحشد الشعبي بشكل خاصّ، فثمّة أوساط عراقية من المشاركين بالعملية السياسية أبدت مخاوفاً من أن يتكرّر ما حصل في جرف الصخر وديالى وتكريت بعد تحريرها من أيدي داعش، من كيدية وأعمال عنف وحرق وتدمير، وهو ما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي.
وقد استدرك رئيس الوزراء العبادي بالتوقف عند تلك المشاهد بخطاب ألقاه في بداية المعركة ضدّ داعش في الفلّوجة ليلة 22 على 23 مايو (أيار) الماضي، بتأكيده أن المدينة ستعود إلى أهاليها ويرتفع فوقها العلم العراقي، في رد غير مباشر على الذين يتّهمون الحشد الشعبي.
من جهة أخرى، لم تنفِ أوساطاً شيعية متنفّذة من حدوث بعض الانتهاكات من جانب الحشد الشعبي، ولكنّها نسبتها إلى تصرّفات فردية، كما قال النائب في البرلمان العراقي علي العلاّق عن ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي. وكان أبو مهدي المهندس (نائب القائد العام لقوات الحشد الشعبي) قد اعترف بوجود خروقات مشيراً إلى أن بعض عناصر الحشد الشعبي قد اعتقل وأُودع في سجن تابع لمحكمة الجنايات المركزية في بغداد.
وبالطبع، فكلّما طال أمد المعركة وتأخّر التحرير، فإنّ القلق بخصوص السكان المدنيين الأبرياء العزّل يزداد، خصوصاً وأن داعش أغلق منافذ الخروج على المدينة بالجدران الكونكريتية، ولم يتمكّن من الهرب خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، أي منذ بدء المعارك أكثر من ألف شخص، وتعرّض بعضهم إلى الاغتيال، وكانت بعض العوائل قد سلكت طرقاً وعرة للغاية لتتمكّن من الفرار، وروت قصصاً مروّعة عن مجازر ارتكبها داعش وعن حرمانات وعذابات لا حدود لها، خصوصاً خلال فترة الحصار عليها.
وقالت منظمة اليونيسيف إن نحو 20 ألف طفل محاصرين، بعضهم يتم استخدامهم من جانب داعش كدروع بشريّة، كما أن العمليات العسكرية والقصف العشوائي أحياناً ألحق أضراراً بالغة بالسكان المدنيين، خصوصاً إذا ما عرفنا أن عناصر داعش تتوزّع على المناطق السكنية وتختبىء خلف السكان المدنيين، الأمر الذي يقتضي مراعاة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقَيها الأوّل الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية االمسلّحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية.
وإذا كان داعش يضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط ويدوس على القيم والمشاعر الإنسانية، بمحاولته الآيديولوجية لتقديم إسلام سياسي لا علاقة له بتعاليم الدين السمحاء، ويقوم بعمل منهجي لغسل الأدمغة وفرض نمط حياة بالضد من منطق التطوّر وسمة العصر وروح الإسلام، فإن على القوات العراقية (الرسمية) وقوات التحالف الدولي مراعاة ذلك بدقة، ومنع أي جهة رسمية أو غير رسمية (من الحشد الشعبي أو غيره) وتحت أي مبرّر، من انتهاك قواعد القانون الدولي المعاصر وقواعد القانون الإنساني الدولي، سواء خلال المعارك أو بعد الانتهاء منها.
ولا ينبغي أن يكون ثمن تحرير الفلّوجة، المزيد من المعاناة، حيث الجزء الأكبر لا يزال يعاني من النزوح ومشكلاته وتعقيداته، وما سيتركه نفسياً على الجيل الحالي وما يليه من تأثيرات سلبية. أما الجزء المتبقي وهو بحدود 50 ألف نسمة، فإنّه ذاق الأمرّين خلال السنتين ونيّف على أيدي داعش، أي منذ أن تمّ اختطاف المدينة في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، أي قبل احتلال الموصل بنحو ستة أشهر. وتعرّض ما تبقى من السكان إلى حصار دام تسعة أشهر، وهو الحصار الذي لم يعاني منه داعش بقدر ما كانت تأثيراته وخيمة على السكان الأبرياء.
هكذا كانت الفلّوجة تدفع أثماناً باهظة سواء حين حاول الأمريكان تركيعها وإهانتها، حيث قاموا باستباحتها بعد الاحتلال بزعم اغتيال جنود، ثم فرضوا حصاراً عليها منذ ربيع العام 2004 وإلى نهاية العام، حيث تعرّضت إلى قسوة وانتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان على أيدي قوات تابعة للحكومة العراقية وقوات أمريكية.
وبعد ذلك عانت من صدامات بين الصحوات وتنظيم القاعدة، وعوقبت واتّهمت خلال حركة الاحتجاج. وهي اليوم تنزف وتئنّ تحت ضربات المطرقة والسندان، فهل سيكون ثمن التحرير المزيد من المعاناة التي قد تؤدي إلى تفكيك البلاد تمهيداً لتقسيمها بزرع الفتنة الطائفية وتأجيج مشاعر العداء والكراهية والبغضاء، أم أنه بداية النهاية لوضع حد لمعاناة طال أمدها؟ خصوصاً وأن الفلّوجة ذاقت أنواع من القسوة والقهر ومحاولات الإذلال.