“إسرائيل” الأفريقية
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
كانت القاهرة قبلة حركة التحرّر الوطني الأفريقية في الخمسينات والستينات، ولم يصادف أن يمرّ شهر من دون أن يزورها أحد زعمائها سراً أو علناً ويلتقي مسؤولين فيها، ويحظى بدعمها، فقد انتهجت مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر سياسة تضامنية مع شعوب أفريقيا وآسيا منذ مؤتمر باندونغ التاريخي العام 1955، الذي مثّل حضوراً لافتاً لزعماء وقادة كبار، مثل سوكارنو ونهرو وتيتو وعبد الناصر. وقد حدثني محمد فايق مسؤول الملف الأفريقي ووزير الإعلام المصري الأسبق، الذي أصدر أكثر من كتاب عن علاقة مصر بشكل خاص والعرب بشكل عام بأفريقيا، من بينها ما كتبه وهو في السجن، والموسوم “عبد الناصر والثورة الأفريقية”، أنه التقى لمهمات مختلفة ومتعدّدة مع باتريس لومومبا ونيلسون مانديلا وكوامي نيكروما وأحمد بن بلة، وعدد كبير من القادة الأفارقة، سواء قبل أن تتحرّر بلادهم أو بعد نيلها الاستقلال في الستينات، خصوصاً بصدور قرار الأمم المتحدة رقم 1514 في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960، والقاضي بتصفية الكولونيالية.
لكن أفريقيا التي كانت عمقاً استراتيجياً للعرب، لم تعد كذلك، الأمر الذي شجّع “إسرائيل” على التغلّغل بمختلف الوسائل النّاعمة والصّلبة داخل القارة السوداء، فبعد أن كانت أفريقيا بشكل عام تقف إلى جانب العرب وتؤيّد حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وتندّد بسياسة “إسرائيل”، فإذا بها تقيم أوثق العلاقات معها، بما فيها على حساب العرب وأمنهم القومي.
هكذا حلّ رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو ضيفاً مميزاً على أفريقيا، وقام بجولة أفريقية شملت أربع بلدان في منطقة حوض النيل هي: كينيا وأوغندا ورواندا وإثيوبيا، ولعلّ هذه الزيارة هي الأولى منذ أواسط السبعينات لمسؤول “إسرائيلي” رفيع المستوى، وخلال زيارته الأفريقية عقد نتنياهو قمة في أوغندا (يوليو/ تموز/ 2016)، التقى فيها مسؤولين عن سبع دول أفريقية، فإضافة إلى رؤساء الدول الأربع، انضمّ مسؤولين في ثلاث دول أخرى إلى القمة، وهم رئيس جنوب السودان، ورئيس زامبيا، ووزير خارجية تنزانيا.
اللاّفت في زيارة نتنياهو، هو توقيتها الذي له دلالة رمزية، حيث تصادف زيارته مرور 40 عاماً على مقتل شقيقه الكولونيل جوناثان نتنياهو في عملية عينتيبي (يوليو/ تموز 1976)، التي أشرف عليها التنظيم المسلّح التابع للجبهة الشعبية (جناح وديع حداد)، حيث تمّ اختطاف طائرة “إيرفرانس“ وهي في طريقها إلى باريس من مطار رام الله “الإسرائيلي”، وقام الفريق المهاجم بتوجيه طاقم الطائرة للنزول في مطار عينتيبي (أوغندا)، ولكن “إسرائيل” تمكّنت من إنقاذ الرهائن بالتواطؤ مع كينيا، واعتقلت بعض المهاجمين الذين أطلق سراحهم في عملية تبادل كبرى في العام 1986 ولقي ضابط “إسرائيلي“ واحد حتفه هو شقيق نتنياهو.
كما تأتي هذه الزيارة، تتويجاً لنشاط محموم قامت به “إسرائيل” في القارة السوداء منذ عقود، مستغلة الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمعقّدة التي تعيشها، وحاجتها إلى المساعدة التكنولوجية لتطوير الزراعة واستثمار الأخشاب واستصلاح الأراضي ونصب شبكات كهرباء وري، خصوصاً أن العديد من البلدان الأفريقية تعاني من المجاعة والتصحّر والأمراض والأمّية والتخلّف، ومن هذا الباب دخلت “إسرائيل” وتغلّغلت بحجّة مد يد العون لشعوبها.
وتشعر “إسرائيل” بأن سمعتها الدولية في تدهور مستمرّ، خصوصاً بعد عدوانها على لبنان العام 2006، وكذلك بعد حصار غزة منذ العام 2007، وعدوانها المتكرّر عليها في عملية عمود السحاب (أواخر العام 2008 وبداية العام 2009)، وعملية الرصاص المصبوب في العام 2012، وعملية الجرف الصامد في العام 2014، إضافة إلى مداهمة أسطول الحرية وقتل عدد من أفراده، بينهم 9 أتراك.
وقد تعهّد رؤوساء الدول الافريقية الذين التقاهم نتيناهو مؤخراً، بإعادة “إسرائيل“ كعضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، وقد كانت في السابق عضواً مراقباً في منظمة الوحدة الأفريقية لغاية العام 2002، وتأتي العودة “الإسرائيلية” بعد انحسار الدور العربي، فبعد أن كانت أفريقيا تتطلع إلى العلاقة مع العرب ودعمهم وتضامنهم، فإذا بها تنفتح أمام النفوذ الصهيوني الذي حاول الرئيس عبد الناصر قطع الطريق عليه، بمشاركته في تأسيس منظمة التضامن الأفرو – آسيوي العام 1957، ليوكل إليها مهمّات التضامن الدولي والإقليمي. ولا ننسى ما قامت به الجزائر في حينها بعد استقلالها، وكذلك الدعم الليبي والسوداني من أجل استمرار شعار المقاطعة لـ“إسرائيل”، وإنْ أصبحت نبرته خافتة، خصوصاً بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد العام 1978 – 1979، وفيما بعد توقيع اتفاقية أوسلو العام 1993 بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، الأمر الذي استغلّته “إسرائيل” لتعزيز علاقاتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بدول وسط أفريقيا ومنابع النيل، بما فيها بناء 3 سدود كبرى في إثيوبيا.
وعلى الرغم من استمرار دعم الاتحاد الأفريقي لحقوق الشعب العربي الفلسطيني وتضامنه من أجل تحقيق مصيره وإقامة دولته المستقلة، ودعوة السلطة الوطنية الفلسطينية لحضور اجتماعاته، لكن ذلك لم يمنع دولاً أفريقية عديدة من تعزيز علاقاتها مع “إسرائيل“ التي استغلّت حاجة الكثير منها لتفرض شروطها السياسية وتستثمر علاقاتها لأغراض أمنية واستخبارية. وتملك “إسرائيل“ حالياً علاقات مع 40 دولة أفريقية (ولديها 10 سفارات، ويوجد 15 سفارة أفريقية في تل أبيب)، وهو أمر لا يمكن تصوّره بعد عدوان “إسرائيل“ على البلدان العربية العام 1967 وحرب تشرين التحرّرية العام 1973، حيث قطعت خلال تلك الفترة نحو 30 دولة أفريقية علاقتها مع “إسرائيل“.
ولعلّ أحد أهداف زيارة نتنياهو لأفريقيا تكمن في محاولة الظهور بمظهر من يريد تقديم الدعم لمكافحة الإرهاب، وهو بذلك يحاول تسويق “إسرائيل” باعتبارها ضحية للإرهاب “الفلسطيني“، بقوله “ليس لدى أفريقيا أي صديق أفضل من دولة “إسرائيل“ خارج أفريقيا، خصوصاً عندما تكون هناك حاجة لأمور عملية مثل الأمن والتنمية“. إذاً فالأسباب الأمنية والاستخبارية، إضافة إلى الرغبة في الحصول على دعم أفريقي في المحافل الدولية لصالح “إسرائيل“، هو من أهداف هذه الزيارة التي جرى الاستعداد والتحضير لها على نحو دقيق خلال الفترة الماضية، فـ”إسرائيل” تريد القول إنها موجودة في أفريقيا، وأن وجودها سيكون على حساب العرب.
نشرت في صحيفة الخليج “الإماراتية” بتاريخ 21/9/2016