الاعتدال والرفاهية
تبدأ معاناة الإنسان في هذه الحياة عندما يطغى جانب من جوانبها على الجوانب الأخرى حتى ولو كان ذلك في فعل الطاعات والخيرات وفعل المباحات وهذه المعاناة تزداد كلما ابتعد الإنسان عن منهج الله عز وجل وانغمس في الملذات والشهوات وهو أمر ملموس، فحيرة الإنسان تزداد عندما يسرف في المباحات ويزداد شقاؤه عندما يعرض نفسه للهلاك بارتكاب المعاصي وانتهاك الحرمات.
والشقاء الذي تعاني منه البشرية اليوم سببه المباشر هو طغيان الجوانب المادية على الجوانب الروحية ولذلك يشعر من يمتلكون الثروات والجاه والسلطة بالخواء الداخلي وبالوحدة والعزلة القاتلة والشعور الدائم بالحرمان العاطفي الذي لا يمكن تعويضه بأي وسيلة أخرى.
ومظاهر عدم الاعتدال في المجتمعات المعاصرة كثيرة ومتعددة فهناك طائفة من الناس تنشغل بالعبادات الفردية كالذكر والصلاة والصوم وتهمل العبادات الاجتماعية كالعمل ومساعدة الآخرين وأداء الزكاة لمستحقيها وأداء حقوق الوالدين وحقوق الزوجة والأولاد وغيرها من الحقوق.
وهناك طائفة تغلب جانب العمل على الجوانب الأخرى والنجاحات التي يحققونها في مجال العمل يقابلها فشل في الحياة الأسرية.
وهناك طائفة تهتم بجمع الأموال من الحلال ومن الحرام ويظنون أن جمع الأموال سيحقق لهم ولذويهم السعادة والرفاهية ولكن هذه الأموال تتحول إلى مصدر متجدد للشقاء والتعاسة.
وهناك طائفة تهتم بارضاء نزواتها ورغباتها الشخصية وتحرص على الحصول على حظوظها من الدنيا وتهمل حقوق الآخرين وتهمل العبادات والعمل للآخرة. والإنسان لا يمكن أن يعيش في رفاهية ورغد إلا بالاعتدال في جميع شؤون حياته وإعطاء كل أمر ما يستحقه من الوقت والاهتمام ومن هنا ندرك أهمية وقيمة الاعتدال الذي دعا إليه الإسلام في كل الأمور.
واعتدال المسلم يتجسد في الأنشطة والعلاقات الاجتماعية حيث يعطي كل ذي حق حقه حتى لا يطغى جانب على الجوانب الأخرى في حياته، فعن عَونِ بنِ أبي جُحَيفةَ عن أبيهِ قال:« آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرْداء، فرأى أمَّ الدَّرداءِ متَبذِّلةً فقال لها: ماشأنُك؟ قالت: أخوكَ أبو الدَّرداءِ ليسَ لهُ حاجةٌ في الدُّنيا. فجاءَ أبو الدَّرداءِ فصنَعَ لهُ طَعاماً فقال له: كل، قال: فإني صائمٌ، قال: ماأنا بِآكِلٍ حتى تَأْكُلَ. قال: فَأَكلَ. فلمّا كان الليلُ ذَهبَ أبو الدرداءِ يقومُ، قال: نَمْ، فنام. ثم ذَهبَ يقومُ، فقال: نَمْ. فلمّا كانَ مِن آخِرِ الليلِ قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فصَلَّيا. فقال له سَلمانُ: إِنَّ لِربِّك عليكَ حقاً، ولنفْسِكَ عليكَ حقاً ولأهلِكَ عليكَ حقاً فأعْطِ كلَّ ذي حَقّ حقَّه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذَكرَ ذلكَ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلمانُ». صحيح البخاري: 1945.
واعتدال المسلم نجده في الاستمتاع بالحياة فليس هناك إسراف في إعطاء النفس حظها من الدنيا وليس هناك منع لها من الحصول على حقها في الترويح واللهو المباح شرعاً. يقول الله عز وجل:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ ِبهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة الأعراف: 32-33.
والاستمتاع بطيبات الحياة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فعن أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال:« جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». صحيح البخاري: 4943.
والاعتدال عند المسلم نجده في طلب حسنات الدنيا وحسنات الآخرة يقول الله عز وجل:{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة البقرة: 201.
واعتدال المسلم نجده في حالتي الرضا والغضب ونجده في رد الاعتداء بالمثل يقول الله عز وجل:{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. سورة البقرة: 194. ويقول الله عز وجل:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}. سورة النحل: 126.
والمسلم معتدل في طعامه وشرابه فلا إسراف ولا تبذير ولا تقتير في النفقة والمسلم مطالب بالتوسعة على أهل بيته قدر المستطاع يقول الله عز وجل:{ ريَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. سورة الأعراف: 31.
وعن مِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:« مَا مَلأَ آدمِيٌ وِعَاءً شَرَّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ». سنن الترمذي: 2420.
وما أحوج البشرية اليوم إلى الاعتدال في كل الأمور فالاعتدال هو مصدر الرفاهية وهي مصدر راحة الإنسان في هذه الحياة لأنه يريح الانسان من عناء التكلف في العبادة ومشاق السعي في كسب الرزق وعناء الخوف من المستقبل.