الباحثون العرب والمفاهيم الغربية
دكتور نايف بن نهار
الغرب أغرقنا بمنظومة ضخمة من المفاهيم، منها ما نحتاجه، ومنها ما لا نحتاجه، والنتيجة أن أعمار الباحثين ضاعت في الدوران في فلك هذه المفاهيم، صار الباحث مشغولاً بتحرير هذه المفاهيم بدلاً من أن يكون مشغولاً ببناء معرفي ناتج عن احتياجات الواقع ومتطلباته.
خذ مثلاً العلمانية، إذا أردت أن تبحثها وتحكم عليها يجب عليك أولاً أن تفهمها، وحتى تفهمها يجب أن تبحث عن تعريفها، وإذا أردت أن تبحث عن تعريفها سوف تنطلق _بحكم أنك عربي_ لقراءة المؤلفات العربية المكتوبة عن العلمانية، وبعد قراءة عشرات الكتب لتحصل على تعريف العلمانية فقط تكتشف أنك لم تصل إلى نتيجة؛ لأنهم مختلفون جدًا في تصويرها، فتذهب وتقرأ مدونات الفكر الغربي فتكتشف أن الخلاف هو نفسه، بل أعمق.
بعد ذلك ترجع إلى الإحالات لفلاسفة النهضة والتنوير كي تعرف العلمانية من خلال السياق الفلسفي والاجتماعي المنشئ لها، فتقرأ من توماس هوبز وجان بودان وجون لوك وجاك روسو وديفيد هيوم إلى أن تصل إلى جورج هوليوك.
ثم تكتشف أن هؤلاء لا يشكّلون منطلقًا للعلمانية، وأن جذورها سابقة عليهم، فتضطر للرجوع من اللحظة الأولى التي انطلق فيها الدين المسيحي لتراقب جدل العلاقة بين الدين والسلطة منذ اللحظة الأولى حتى تصل في النهاية إلى اللحظة التي حصل فيها انفصال بعد الاتصال بين السلطتين الدينية والزمنية.
وحتى تنتهي من هذه الرحلة تكون أمضيت زمنًا طويلاً من عمرك في سبيل البحث عن مفهوم العلمانية فقط! وبعد أن تحقق التعريف الذي يرضيك ويقنعك ستبدأ معك رحلة أخرى، وهي البحث في تطورات العلمانية ونماذجها التطبيقية، هدف هذه الرحلة هي البحث عن الثابت والمتغير في العلمانية، البحث عن القواسم المشتركة التي تشكّل جوهر العلمانية، فهو بحثٌ لا يزال في المعنى.
ثم تبدأ معك مرحلة جديدة، وهي جدل العلاقة بين العلمانية كما هي ناتجة عن الخبرة الأوروبية والواقع العربي، لماذا استوردت وكيف استوردت وما مدى حاجة الواقع العربي لها؟ وما التغيرات الدلالية التي حصلت على مفهوم العلمانية حين انتقلت من السياق الأوروبي؟
ثم أخيرًا تصل إلى محل البحث، وهو موقف الإسلام من العلمانية، فتجد أن هناك خلافات كثيرة وكبيرة لم تكن ناشئة عن اختلاف تصديقي، بل عن اختلاف تصوّري، وتدخل في إشكال الجدل التصوّري الذي سيستنزف هو الآخر زمنًا من عمرك.
ما أريد إيصاله هو أن المنتجات الفكرية الغربية لم تثمر في حق الوعي العربي بقدر ما أضرته، استنزفت أوقات آلاف الباحثين العرب، ممن أنفقوا أعمارهم في بحث مدلول الحداثة والعلمانية والنسوية والليبرالية والماركسية والشيوعية والاشتراكية والتفكيكية والبنيوية والأيدلوجيا وغير تلك المفاهيم.
وفي النهاية يبقى السؤال الأهم قائمًا: هل تستحق هذه المفاهيم أن ينفق الباحثون العرب أعمارهم في تحريرها بدلاً من الانطلاق من واقعهم واحتياجاتها ثم تأطير تلك الاحتياجات بمفاهيم مفصلة على مقاسها؟