الهجرة النبوية فيها الكثير من الدروس والعبر، ومنها التضحية والفداء، والأخذ بالأسباب، والتخطيط الاستراتيجي، والحذر والكتمان، والاستعانة بالخبراء والمختصين، ووقفتنا في هذا المقال ستكون مع الجوانب النفسية التي كان لها عظيم الأثر في نجاح الهجرة المباركة.
الإعداد النفسي للهجرة
الأمر الإلهي بالهجرة من مكة للمدينة لم يكن مفاجئًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وسبقه تمهيد لذلك تمثل فيما قاله ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد لقائه الأول مع جبريل عليه السلام وعودته من غار حراء، فقد قال له ورقة: “هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا”. صحيح البخاري: 6982.
وسبق الهجرة أيضًا إعداد نفسي لرفيق النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عندما لم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأمره بالانتظار قائلًا له: “لا تعجَلْ، لعلَّ اللَّهَ أن يجعَلَ لك صاحِبًا”. فقه السيرة: 160. وهو ما دفع أبا بكر الصديق رضي الله عنه للاستعداد للهجرة وتجهيز راحلتين من أجلها، والتهيؤ نفسيًا لها ولمصاعبها.
الحب والطاعة
الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مكرهًا، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ مخاطبًا مكة: “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ”. صحيح الترمذي: 3925.
وفي الهجرة ترك النبي صلى الله عليه وسلم البلدة التي يحبها جهادًا في سبيل الله عز وجل وابتغاء مرضاته وإعلاء لكلمته ودينه، وحقيقة الإسلام أن يقدم المسلم ما يحبه الله عز وجل ورسوله على ما يحبه هو وتهواه نفسه، يقول تعالى:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورة التوبة: 24.
والمحبة لله عز وجل ورسوله تكون بالاتباع والانقياد لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، يقول الله عز وجل:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة آل عمران: 31.
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:
تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا محالٌ في القياس بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأخته أسماء رضي الله عنهم أجمعين أعطونا دروسًا في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمونا أن نفديه ونفدي دعوته بأرواحنا وبكل ما نملك.
والدرس الذي نتعلمه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة التي يحبها هو أن نترك ما نحب جهادًا في سبيل الله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن نفدي ونضحي بأرواحنا في سبيل كل ما يستحق التضحية والفداء، ويترتب عليه الأجر والجزاء.
الحب والخوف والمعية
في الهجرة النبوية تجلت محبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لرسول صلى الله عليه وسلم، والحرص على ألا يصيبه أي أذى؛ لأنه رسول الله وهو القائد والقدوة وصاحب الرسالة.
وفي مقابل خوف أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، كان إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ويقينه بنصر الله عز وجل والثبات الانفعالي في هذا الموقف العصيب، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “كُنْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لو أنَّ أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قالَ: ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا”. أخرجه البخاري: 4663، ومسلم:2381.
وفي وصف مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم ومشاعر صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار، يقول الله عز وجل:
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة: 40.
بين الطمع والعوض من الله
سراقة بن مالك رضي الله عنه خرج من مكة طمعًا في الجائزة التي رصدتها قادة قريش لمن يأتيهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الجائزة 100 من الإبل، وبعد المعجزة التي رآها سراقة بن مالك رجع بالإيمان وبوعد الرسول صلى الله عليه وسلم له بسواري كسرى، وكان ذلك نعم العوض من الله عز وجل لسراقة رضي الله عنه الذي تخلى عن طمعه الدنيوي، وطمع فيما عند الله عز وجل الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وفي الحديث: “إنَّك لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إلَّا أعطاك اللَّهُ خيرًا منْهُ”. أخرجه أحمد: 20758.
الفرح يعم المدينة
عم الفرح والسرور والبشرى يثرب التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد المدينة وطيبة، وقد تسابق الأنصار رضي الله عنهم لاستضافة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسنوا وفادة المهاجرين وآووهم ونصرونهم وآثروهم على أنفسهم، وفي وصف الأنصار رضي الله عنهم أجمعين يقول الله عز وجل:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة الحشر: 9.
الدروس النفسية في الهجرة النبوية
في الهجرة النبوية الكثير من الدروس والعبر للمعتبرين، ومن الدروس النفسية التي نتعلمها من الهجرة النبوية أن نتهيأ نفسيًا وماديًا، وأن نعد العدة لكل أمر عظيم نقدم عليه، وأن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر له، وأن نترك ما نحب ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وأن نحب أصحاب الرسالة والقيم النبيلة وندافع عنهم، وأن نساندهم في إرسائها وتثبيت دعائمها في المجتمع، وأن نترك الطمع في متاع الدنيا الزائل ابتغاء ما أعده الله عز وجل لعباده الصالحين، وأن نحن كل من هاجر في سبيل الله عز وجل وأن نقدم له الدعم والنصرة.
المصدر: مدونة عمران https://omran.org/ar