الحرب الباردة الجديدة
د. عبد الحسين شعبان
هل التجاذب الروسي – الأمريكي بخصوص أوكرانيا أو الأزمة السورية أو الملف النووي الإيراني والصواريخ البالستية في أوروبا وغيرها، يعني عودة الحرب الباردة التي استمرت ما يزيد عن 40 عاماً بين واشنطن وموسكو؟ هناك قراءتان أمريكيتان لشخصيتين وازنتين وارنا دوراً كبيراً في رسم الستراتيجية والتاكتيك الأمريكيين في الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات وهما زبيغينو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق وهنري كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق، حيث كان لما يُعرف بتروست الأدمغة اللذان عملا فيه شأن كبير ومؤثر، في الصراع الآيديولوجي والحرب الباردة بين الشرق والغرب آنذاك، وهو الأمر الذي استبدل بـ ” الإسلام ” بعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني/ 1989.
توقفت عند آراء بريجنسكي وكيسنجر من خلال مقابلتين صحافيتين فيما يتعلق بالراهن والمستقبلي. المقابلة الأولى أعطاها زبيغينو بريجنسكي لمجلة “دير شبيغل” الألمانية في يوليو /تموز 2015 . أما المقابلة الثانية فقد كانت للمجلّة ذاتها، وقد سبق أن أجرتها مع هنري كيسنجر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 ويمكن قراءتها استكمالاً لمقابلة جريدة الصاندي تايمز مع كيسنجر التي أعطاها يوم 7 سبتمبر/ أيلول من العام ذاته، أي قبل شهرين على مقابلته مع مجلة الدير شبيغل.
جوهر المقابلة الأولى يصبّ في موضوع عودة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، لدرجة أن ” الصقر” البولوني الأصل زبيغينو بريجنسكي شدّد على القول “نحن عملياً في حرب باردة”، وخاطب الغرب بقوله إن عليه ” الوقوف في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا”، وإن عليه أيضاً أن يجعل الأمور صعبة على الروس لاستخدام القوة . ودليله على عودة الحرب الباردة هو موضوع أوكرانيا واحتمال التصعيد العسكري الروسي وزيادة ترسانة موسكو من الصواريخ العابرة للقارات، في مقابل سعي واشنطن لنشر قواعد الصواريخ والأسلحة الثقيلة في أراضي أوروبا الشرقية المنخرطة في إطار حلف شمال الأطلسي.
ويمكن القول إن الدور الروسي في المفاوضات مع إيران 5+1 بشأن الاتفاق على الملف النووي، وكذلك الموقف من نظام الحكم في سوريا، هو عودة محدودة لهذه الحرب الباردة التي تحدّث عنها بريجنسكي، لاسيّما بعد خذلان روسيا في ليبيا وبعد خيبتها في العراق، إضافة إلى مصر، وهي مناطق نفوذ تاريخية بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، خصوصاً لدوره في موضوع الصراع العربي- الصهيوني.
أما هنري كيسنجر “الثعلب العجوز″ والألماني الأصل فلم يختفِ عن الأضواء، وظلّ يدلي بآرائه بين فترة وأخرى، وهذه الآراء تلقى اهتماماً كبيراً وأحياناً مبالغاً فيه، لدرجة هناك من يتحدّث عن “حكمة” صاحب “النظرية الواقعية ” في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من مغادرته البيت الأبيض بانتهاء فترة الرئيس جيرالد فورد في العام 1976 الاّ أنه كان يقوم ببعض المهمات الاستشارية في الحكومات اللاحقة، وهو ما اعترفت به مؤخراً السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس أوباما من 20 يناير /كانون الثاني، العام 2009 حتى 1 فبراير/ شباط 2013.
وكان كيسنجر قد انتقد مؤخّراً إدارة الرئيس باراك أوباما متّهماً إيّاها بالفشل، بخصوص التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش” ودعا إلى شن حرب قوية ضده وعدم التمييز بين العراق وسوريا.
ويجب أن لا ننسى إن كيسنجر عندما يبحث ويفكّر، فإنه يجمع في شخصه رجل الدولة والباحث والمفكّر، الذي يعطي لما يكتبه أو يقوله أهمية خاصة، وإنْ كان هناك افتراقاً بين كيسنجر الأكاديمي وكيسنجر السياسي.
أما في مقابلته مع مجلة الدير شبيغل فقد وجّه كيسنجر انتقادات مباشرة إلى الغرب بخصوص المسألة الأوكرانية ، وطلب قراءة جديدة لموقع روسيا، لأنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا ، كما خطّأ موقف واشنطن بشأن سوريا ، وقال كان يُفترض ” التفاهم” مع الروس، في إشارة إلى عودة التوازن الذي كان سائداً في فترة الحرب الباردة، وأخيراً حاول التفريق بين أوروبا والولايات المتحدة، فالأولى تؤمن بالدبلوماسية الناعمة بالدرجة الأساسية، في حين أن واشنطن تؤمن بالقوة التي تأتي الدبلوماسية مكمّلاً لها.
ويعتبر الرئيس جون كيندي 1960 -1963 أول من اهتم بشكل كبير بمراكز الأبحاث والدراسات، حيث جمع العديد من الكفاءات حوله لتأسيس “مجمّع العقول” الذي أخذ يؤثر في صناعة وتوجيه القرار السياسي للبيت الأبيض الأمريكي. وكان من أبرز العاملين فيها الذين احتلوا مواقع مهمة لاحقاً، إضافة إلى كيسنجر وبريجنسكي، كل من مادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وستيفن هادلي .
ويقوم ترست الأدمغة ” بتطوير” ستراتيجية الدعاية والحرب النفسية وتاكتيكها بالاعتماد على وسائل الصراع الآيديولوجي. وارتبط شيئاً فشيئاً بشكل وثيق بالمؤسسات الحكومية، وهو ما دعي، فيما بعد بـ”المجمّع السياسي- الأكاديمي” وكان ذلك في بداية تكوين ” المجمّع الصناعي- العسكري” في الستينيات.
عُرفت سياسة كيسنجر في الشرق الأوسط باسم سياسة الخطوة – خطوة Step by Step حتى أن بعض الزعماء العرب، أعلن انبهاره بسحر وفاعلية تلك السياسة ووصف الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات مخطِطَها كيسنجر، بالساحر وصانع المعجزات ورجل الدولة من الطراز الأول.
وعلى الرغم من تمرّغ هيبة رئيسه نيكسون بالوحل العام 1974 إثر فضيحة ووترغيت إلاّ أن نجم كيسنجر لم ينطفئ وقد استطاع توظيف موقعه السابق بما يعطي الانطباع على استمراره الفاعل في السياسة الخارجية، من خلال تصريحات وتحليلات واستشرافات، كان قد قال بعضها في السبعينيات ومنها: علينا أن نقيم دويلة وراء كل بئر نفط، وكان من آرائه زعزعة النظام في العراق، عن طريق تشجيع إيران الشاه، بدعم المجموعات الكردية المسلحة، لمشاغلة الجيش العراقي، ومنع مشاركته في التصدي لإسرائيل، وعندما وصلت الأمور إلى لحظة حرجة، لم يكن بعيداً عن حلحلتها، عبر اتفاقية الجزائر العام 1975 بادر إلى “التدخل” لضمان سكوت الحكومة العراقية عن المطالبة بالجزر العربية الثلاث أبو موسى والطنبين، وهو ما كان يريده شاه إيران، مقابل وقف دعم الحركة الكردية المسلحة الذي يريده صدام حسين، إضافة إلى ذلك كان من توجهاته إذكاء نار الصراع بين سوريا والعراق، إضافة إلى مناصبة جمهورية اليمن الديمقراطية العداء السافر، والدعوة للإطاحة بنظامها.
أما زبيغينيو بريجنسكي فقد أصبح مديراً لاحد من أهم معاهد الأبحاث الذي أُسس في جامعة كولومبيا العام 1961 وعُرف باسم ” معهد القضايا الشيوعية” ويعد بريجنسكي من الآباء الروحيين لنظرية بناء الجسور، حيث كان يعمل مستشاراً للرئيس جونسون للشؤون الخارجية، ثم أصبح مستشاراً للأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر 1977-1981 ثم عَمِل في مركز الدراسات الستراتيجية والدولية.
كانت آراء كيسنجر وبريجنسكي، تطبيقاً لنظرية بناء الجسور، التي تم تحضيرها في عهد الرئيس كيندي، وجاء دورها في عهد الرئيس نيكسون، واستمرت لاحقاً، حيث يتم الاستعانة بها، للصراع الحالي ضد “أعداء” الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن تلك النظرية ظهرت في سنوات الستينيات، إلاّ أنها ظلّت تحتفظ ” بسحر” خاص في الستراتيجية الأمريكية لحين انهيار الكتلة الاشتراكية، فضلاً عن استمرارها في صراعها ضد “الإسلام” السياسي، وذلك تحت ذريعة أو مبرّر حلول “العصر الأمريكي”، لتعميم نمط الحياة الاجتماعية وطرائق التفكير والوسائل الاستهلاكية الضرورية الأمريكية، تلك التي تفتقر إليها الكثير من البلدان التي تعارض سياسة واشنطن، كما عملت على التسلّل داخل هذه البلدان من خلال أساليب مختلفة، أهمها وسائل الإعلام، ولاسيّما الفضائيات، والثقافة بكل أنواعها، من السينما إلى الفن والأدب، ومن لعب الأطفال إلى الكتب والمطبوعات، ومن الاتصال المباشر إلى الانترنيت وغير ذلك.
صحيفة الزمان العراقية، السبت 12/9/2015.