الرضا والصبر العجيب
قبل أربع سنوات، وفي 19 من شهر رمضان توفي الوالد رحمه الله عز وجل وأسكنه فسيح جناته، والأيام الأخيرة للوالد رحمه الله لا تزال محفورة في ذاكرتي ولن تنسى، فقد فاضت روحه إلى بارئها وهو متوسد فخذي، وقد خرجت روحه كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خروج روح الؤمن بقوله:”فتخرجُ تسيلُ كما تسيلُ القطرةُ من السِّقاءِ”.
والوالد رحمه الله كان حريصًا على صلة الرحم، وجنى ثمرة ذلك بالبركة في الرزق والعمر والتوفيق للطاعات وأعمال البر والخير، والذكر الجميل بعد الموت، فلا يذكر عند أحد من معارفه إلا أثنى عليه بخير ودعا له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”مَن سرَّهُ أن يُبسطَ لَه في رزقِهِ ، وأن يُنسَأَ لَه في أثرِهِ ، فليَصِلْ رَحِمَهُ” صحيح البخاري: 5985.
والوالد رحمه الله كان طيبًا ودودًا، وكان متسامحًا إلى أبعد الحدود ولم يحمل في قلبه يومًا حقدًا أو حسدًا لأحد من الخلق.
والله عز وجل كتب له القبول في الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيُحِبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إن اللهَ يحبُ فلانًا فأحبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ”. صحيح البخاري: 3209 .
والوالد رحمه الله ابتلاه الله عز وجل بالمرض في أواخر حياته، واجتمعت عليه أكثر من علة في جسده، وأشهد الله عز وجل أنني لم أسمع منه يومًا شكوى أو تضجر أو حتى تعبيرًا عن الألم الذي يعاني منه، وكان رحمه الله دائم الذكر لله عز وجل، ومن عجيب صبره أنه كان يقول مخاطبًا الله عز وجل:”أنا صابر يارب، أنا راض بقضائك، وعلى أكثر من ذلك أنا صابر، يارب عفوك ورضاك”.
والمرض الذي ألم بالوالد في جسده، ذكرني بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى“. صحيح أبي داود: 3090.
والوالد رحمه الله وهو في مرض الموت خلال شهر رمضان كان يحمل هم من حوله فكان يقول لنا ونحن حوله:” قوموا فتسحروا، أو قوموا فأفطروا”.
والوالد رحمه الله عندما كنا نلح عليه في تناول الطعام أو الشراب كان يرفض لأنه كان يشعر بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا، وانقطاع رزقه منها.
والوالد رحمه الله كان يتيمًا، ونشأ عصاميًا حتى أغناه الله عز وجل من فضله، وجعله من الطبقة الوسطى ميسورة الحال، وكان سمحًا في تعامله مع الناس، ويصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:”رحم الله رجلا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”. صحيح البخاري: 2076.
والوالد رحمه الله كان يعامل من ظلموه وأكلوا حقوقه من أقاربه وهو صغير، بإحسان ولم يقاطع أحدًا منهم.
والوالد رحمه الله كان محبًا للخير ونفع الناس، وآخر وصية له كانت تجهيز إفطار جماعي للعائلة ولكل من حضر العزاء.
والوالد رحمه الله أحسن إلينا في التربية وفي النفقة ولم يحرمنا من شيء، وكان نعم الأب والأخ والصديق، وكان يمازحنا ويمازح أخواتي البنات ويكنيهن بكنى محببة إليهن.
رحل الوالد رحمه الله عن دنيانا منذ سنوات وأصبح في جوار ربه الكريم، ولكننا ما نسيناه يومًا، ونسأل الله عز وجل أن يجزيه عنا خير الجزاء.
الدوحة في 11/6/2016.