السكن حق إنساني *
بحث الإنسان من قديم الزمان عن مكان يؤويه ويقيه من برد الشتاء ومن حر الصيف ويجد فيه الراحة والأمان ويوفر له نوعاً من الخصوصية فكانت البداية مع الكهف والأكواخ المبنية من جريد النخل أو من الخشب والخيم المصنوعة من الشعر والصوف ثم البيوت المبنية من الطوب اللبن ثم البيوت المبنية من الحجر والحوائط الأسمنتية الجاهزة وكل انسان يبني مسكنه على قدر استطاعته فهناك البيوت المتواضعة وهناك البيوت والقصور الفاخرة المزودة بكل وسائل الرفاهية وصولاً إلى ما يطلقون عليه “المساكن الذكية” صديقة البيئة والموفرة للطاقة.
والإنسان مهما كانت ثقافته وبيئته لا يستطيع أن يعيش بلا مأوى يلجأ إليه للنوم والراحة وممارسة نشاطاته الإنسانية.
والمسكن يعتبر من الضروريات بالنسبة للإنسان والحصول على مسكن مناسب أصبح مشكلة عند الكثيرين في ظل ارتفاع أسعار الأراضي وأسعار مواد البناء وفي ظل الارتفاع الجنوني للايجارات وتعنت أصحاب العقارات والقلق والهم الذي يعيش فيه المستأجر خوفاً من رفع المالك للإيجار أو مطالبة المستأجر بالرحيل. فهناك معاناة حقيقية للمستأجرين في ظل الجشع والطمع الذي ملأ قلوب أصحاب العقارات وتدخل الحكومات للحد من ارتفاع الايجارات تدخل محدود لا يلبي احتياجات الملايين من المستأجرين والعلاقة بين المالك والمستأجر لم تأخذ بعد صورة تتوافق مع مبادئ الشريعة التي تحرم وتمنع الظلم وتعطي كل ذي حق حقه وتوازن بين الحقوق والواجبات.
والإسلام أولى المسكن إهتماماً كبيراً ووفر له حماية خاصة وحث على أن يكون لكل فرد في المجتمع المسكن الذي يؤويه ويوفر له الخصوصية والأمان والراحة فأوجب على الزوج توفير المسكن المناسب لزوجته ومن حقوق الموظف العام في الدولة الإسلامية الحصول على المسكن المناسب وأن توفر له الدولة الخادم ووسيلة المواصلات وأن تعينه على الزواج فعن المستورد بن شداد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من ولى لنا عملاً فلم يكن له زوجة فليتزوّج أو خادماً فليتخذ خادماً أو مسكناً فليتخذ مسكناً أو دابة فليتخذ دابة فمن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال أو سارق». مسند الإمام أحمد: 17679.
وهذه الأمور لم تتوفر للموظف العام في الدول الغنية حتى الآن ولذلك يُهدر المال العام وتنتشر الرشوة ويشيع الفساد المالي والإداري في المؤسسات العامة لأن الموظف لا يحصل على كفايته من الضروريات ومنها المسكن.
والإسلام حرص كذلك على توفير الخصوصية للمسكن فنهى عن التلصص والتجسس والاطلاع على عورات الآخرين، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: « مَنِ اطلَّعَ في دَارِ قوْم بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَأُوا عَيْنَهُ فَقَدْ هَدَرَتْ عَيْنُهُ». صحيح. أخرجه أحمد (2/266، 414، 527)، ومسلم 6/181.
والإسلام أمر المسلمين باحترام خصوصيات الآخرين ومن آداب الإستئذان ألا يقف الإنسان في مواجهة الباب حتى لا يطلع على عورات البيت، وشدد الإسلام في النهي عن تتبع عورات الناس؛ لأن في ذلك مفسدة عظيمة، فعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، قال سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: « إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدتَهُمْ أو كِدتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ، فقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةُ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم نَفَعَهُ الله بِهَا». صحيح. أبو داود: 4/272.
والمواثيق الدولية نصت على الحق في السكن فالفقرة الأولى من المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول:” لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته”.
ونص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة (11) على:” تقر الدول الأطراف بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر له ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبحقه في تحسين متواصل لظروف المعيشية”.
هذا ما أقره الإسلام ودعت إليه المواثيق والعهود فيما يتعلق بالحق في السكن وعلى الرغم من ذلك لا يجد تقرير حق الإنسان في السكن ما يؤيده على أرض الواقع فالكثير من دول العالم والدول النامية بصفة خاصة تشهد أزمة حادة في السكن فهناك زيادة في الطلب على الوحدات السكنية ونقص شديد في المعروض منها وهناك قلة تحتكر أسواق العقارات وتتحكم في أسعارها.
وأزمة الإسكان بحاجة إلى تضافر الجهود فهناك دور يجب أن تقوم به الحكومات وهو توفير المساكن الاقتصادية للبسطاء ووضع الضمانات الكفيلة لكي يحصلوا عليها حتى لا تذهب لأصحاب رؤوس الأموال وتجار العقارات وهناك دور ينبغي أن يقوم به رجال الأعمال وأصحاب العقارات وهو تخصيص جزء من استثماراتهم لبناء المساكن الاقتصادية التي تحقق لهم قدراً مناسباً من الأرباح وتسهم في حل أزمة السكن والتخفيف من معاناة الفقراء وفي هذا الجانب هناك مبادرات فردية من قبل بعض المستثمرين الشرفاء وهذه المبادرات تستحق الإشادة والدعم.
العشوائيات وانتهاك حقوق الإنسان
العشوائيات مشكلة خطيرة تعاني منها الكثير من الدول العربية وتعكس عدم المساواة والتفريق بين المواطنين وتعكس غياب التخطيط بالكلية فحول كل عاصمة ومدينة من المدن العريقة تتواجد العشوائيات وتتكاثر وكما يوحي إسمها فهي إمتداد عشوائي للمدن الكبيرة وهي مناطق مكتظة بالسكان ومساكنها متلاصقة بدون فواصل والمسكن الواحد تعيش فيه أكثر من عائلة مع ما يجره ذلك الإختلاط من مفاسد أخلاقية.
والعشوائيات مناطق متاخمة للأحياء الراقية ولا يفصلها عنها سوى شارع أو بضعة أمتار وهو منظر يعكس تجاور البؤس والحرمان مع الرفاهية ورغد العيش ويعكس مقدار الظلم الواقع على قاطني هذه العشوائيات وكأنهم مواطنون من الدرجة الثالثة أو الرابعة.
والعشوائيات مناطق محرومة من أبسط الخدمات التي يحتاجها الإنسان كمياه الشرب النقية والكهرباء والصرف الصحي وبالتالي فهي مناطق تعاني من التلوث البيئي الذي يؤدي إلى إنتشار الكثير من الأمراض كالفشل الكلوي والإلتهاب الكبدي وغيرها من الأمراض وبهذه الأوصاف أصبحت العشوائيات البيئة المناسبة للفساد الأخلاقي وانتشار الجرائم الإجتماعية كالسرقة والزنا وقتل الأقارب وأصبحت البيئة المناسبة لتجارة المخدرات وتخريج محترفات للعمل في الدعارة وأصبحت معملاً لتفريخ الإرهابيين وأصبحت الحاضنة للقنابل البشرية الموقوتة التي توشك أن تنفجر احتجاجاً على الوضع المأساوي الذي يعيشه أصحابها. والعشوائيات جريمة إرتكبها المسؤولون بحق الفقراء والبسطاء عندما عجزوا عن إدارة شؤونهم وتقديم الخدمات الضرورية لهم وهؤلاء يجب محاسبتهم على التقصير وخيانة الأمانة التي كلفوا بها.
والعشوائيات ليس لها علاج سوى التخطيط السليم للتجمعات السكانية وتزويدها بالمرافق اللازمة لها والأخذ بعين الإعتبار الزيادة السكانية والعمل على تلبية الإحتياجات المتزايدة للسكان وهنا يكمن الفرق بين العشوائيات وبين المدن الجديدة فالعشوائيات نتاج فكر قاصر ومحدود هدفه إيجاد حلول آنية للمشكلة وقد يكون هناك عذر لأصحاب هذا الفكر لأنهم من الفقراء والمحرومين ولكن ما هو عذر المسؤولين عن التخطيط في البلاد العربية عندما يضعون حلولاً تقليدية لمشكلات لا تجدي معها سوى الحلول المبتكرة وغير التقليدية!
والمشكلة التي نتحدث عنها وعجز الجميع عن إيجاد حلول جذرية لها هي مشكلة ازدحام العواصم والمدن الكبيرة فقد تفتقت أذهان المسؤولين عن أفكار هي بمثابة مسكنات للمشكلة وليس القضاء عليها فلجأوا إلى إنشاء عشرات ومئات الجسور التي يعلو بعضها بعضاً ولجأوا إلى حفر الأنفاق بتكاليف باهظة كانت كافية لإقامة عدد من المدن الجديدة وفي ذلك حل لمشكلة الإزدحام وتخفيف لآثار التلوث البيئي وتوفير لمسكن ملائم وإيجاد لفرص عمل جديدة للشباب.
وتصميم المدن والطرق ومراعاة ما يستجد ليس نتاج الحضارة الحديثة وهو من آثار الحضارة الإسلامية ويشهد بذلك المدن التي أنشأها المسلمون في البلاد التي فتحوها وعنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « اجْعَلُوا الطَّرِيقِ سَبْعَةَ أذْرُعٍ». سنن الترمذي: 1353.
والمسكن يجب أن تتوفر فيه بعض الشروط لكي يكون صحياً ومنها: التهوية الجيدة وامكانية دخول الشمس وتوفر المياة النقية وشبكة الصرف الصحي وأن يكون بعيداً عن أبراج الضغط العالي وأبراج تقوية الإرسال الخاصة بشبكات الهاتف المحمول وبذلك يستطيع الإنسان أن يحيا بكرامة وفي ظروف إنسانية تمكنه من الإسهام في نهضة المجتمع الذي يعيش فيه.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه البعض عن المساكن الذكية وعن المساكن الخضراء صديقة البيئة الموفرة للطاقة والملبية لرغبات المترفين وأصحاب الأموال يقطن الملايين من الفقراء في المساكن السوداء التي تضم المقابر والأكواخ المبنية من الخشب أو من الصفيح والملاحق المحرومة من الهواء والشمس والمخيمات التابعة لمنظمات الإغاثة الإنسانية في ظروف غير إنسانية.
ونوعية المسكن أصبحت من الدلائل القوية على انتشار الظلم الاجتماعي في الكثير من الدول فهناك قلة قليلة تسكن في القصور الفارهة وتمتلك العديد من المساكن الفاخرة بالإضافة إلى أماكن الترفيه في المنتجعات السياحية على شواطئ البحار وهذه القلة تستأثر بالأراضي ذات المواقع الهامة وتحصل على قروض من البنوك لبناء مساكن فاخرة للصفوة كما يقولون بينما ملايين الفقراء يعيشون بلا مأوى وفي ظروف أقل ما يمكن أن توصف به أنها مأساوية.
ومن الظواهر التي أفرزها الفقر واستئثار البعض بثروات البلاد وخيراتها وتخلي الحكومات عن الفقراء والمعدمين ظاهرة “سكان المقابر” فقد فضل الملايين من الفقراء والمعدمين في عدد من الدول العربية والإسلامية مجاورة الأموات على مجاورة الأحياء الذين لم يحسوا بمعاناتهم وعذاباتهم اليومية.
لقد أصبح الحصول على مسكن متواضع من الأحلام بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين في العالمين العربي والإسلامي وبخاصة الشباب المقبلين على الزواج وعدم توفر المسكن من أهم أسباب تأخر سن الزواج.
والحصول على المسكن المناسب حق من حقوق الإنسان ينبغي ألا يفرط فيه وأن يسعى بكل السبل من أجل الحصول عليه وأمل البسطاء في مسكن صحي يستحق أن يوضع ضمن أولويات الحكومات لأنه واجب من واجباتها ويستحق كذلك أن يكون ضمن اهتمامات رجال الأعمال وأصحاب الأموال فللمال دور اجتماعي ينبغي أن يقوم به وهو التخفيف من معاناة الفقراء.