العالم مغرم بالتوثيق
محمد هديب
الوثيقة أصبحت غرامًا رخيص التكلفة من خلال الموبايل، لا أحد تقريبًا من دون موبايل ولا صورة ثابتة أو متحركة تُفلت من التوثيق.
أنت نائم والموبايل مطفأ أو على الصامت، لا تقلق (أو اقلق كثيرًا) فكل شيء موثق بيد أفضل مديري التصوير في العالم ألا وهي كاميرات الشوارع التي لا يُفلت منها حتى فأر عابر.
إذن العالم موثق وتحت الضوء ويجري الآن توثيقه ثانية بثانية، لكن الناس ماذا يفعلون إذا كانوا مستيقظين؟ إنهم يفعلون كما تفعل المؤسسات المهتمة بالتوثيق لأسبابها الوجيهة في نظرها: لأهمية الوثيقة والتأريخ والأرشفة ولدواع أمنية.
الناس يسجلون المكالمات، لأن كل شخص يدافع عن مؤسسته ويأخذ احتياطاته ضد المؤسسات الأخرى: يعني مؤسسة دار أبو أحمد حين تتصل بمؤسسة دار أبو صبحي، فإن أحدًا منهما يتولى تسجيل المكالمة صوتية أو فيديو دون أن يعلم الثاني.
بل بدأت تتسرب ثقافة جديدة. حين يلتقي طرفان في مكالمة يتفقان على أن المكالمة مسجلة. أي والله!
أما إذا كان أحد الطرفين ابن حلال فيتبرع بتنبيه الطرف الثاني بأن المكالمة مسجلة (ربما يقلد الشركات حين تقول إن المكالمة مسجلة لضمان الجودة).
غير أن شيئًا ما انضرب في العمق –إضافة إلى أشياء أخرى- فأنت لا تستطيع أن تمارس النميمة والغيبة والبوح بطريقة أصيلة، فالتوثيق يضرب حقنا في تطوير الرواية التي رويناها أمس، أي أن نعيد تحرير النص بالإضافة والشطب، بل حقك في أن تقول الشيء وعكسه فيما بعد.
هذا لا ينفي أن الناس ما زالوا ينسون سلطة الوثيقة ويقعون في حيص بيص، فتلقي مؤسسة الدولة القبض عليهم بملايين التهم، وتلقي مؤسسة الزوجية القبض عليهم وبيدها أسلحة بيضاء من بينها المفتاح الإنجليزي.
تعال إلى الحيز العام: الشوارع والساحات أو الحيز الجماعي الخاص كالحفلات أو بيوت العزاء.
في الحيز العام هناك مظاهرة. سآخذ آخر مظاهرة شفتها على التلفزيون. لاحظ معي أن الكثير من المشاركين يرفعون الموبايلات لتوثيق المظاهرة. إنها لحظة حارة ومعبرة لكن السؤال: إذا كنا غالبا سنهتم بتوثيق هذه المظاهرة فمن الذي يتظاهر فعلا؟
قد أغامر بالقول: من الذي سيحمل على عاتقه الثورة؟ فأنت لا يمكنك أن تثور وبيدك موبايل، لأنك تريد الحصول على صورة بأقل اهتزاز، بينما الصرخة في الميدان تتطلب أن تكون يداك حرتين لتعبّر بهما.
أما الجماعي الخاص، فتعال إلى الأعراس، وهذه إجمالا غير مكلفة دمويًا كالتظاهر والاصطدام مع مؤسسة الدولة. هؤلاء جمع في حفل عرس والدم الوحيد المرشح للسفك هو دم ليلة الدخلة أو لأن الرجل ذا الشاربين الشبيهين بمقود البسكليت أطلق رصاصة بالغلط واستقرت في جسد ابن خالة العروس.
سوى ذلك، على الجميع أن يذعنوا لأمر الأغنية الشهيرة “جنّوا نطّوا”، ولكن لأن الجميع يرفعون الموبايلات بمن فيهم أشقاء العريس والعروس لتوثيق العرس فيكون السؤال من الذي يرقص؟ ومن الذين جنّوا ونطّوا؟ تكتشف أن لا أحد.
هذا وللمرة الألف، لا يقلل من أهمية الوثيقة، سواء التي توثق ما لا تريد الأنظمة توثيقه أو التي توثق المشاركات الاجتماعية، المشكلة في أن اللقطة صارت أسرع في الفعل والنشر بما أظن أنه أفقدها كثيرًا من الأصالة والجدية.
اللقطة لا تحتاج للتحميض ولا قطع مسافة ورشح جبين وعرق أبطين من أجل إيصالها.
السرعة مهما كانت هائلة توثق، فيرى الجميع كل شيء.
أتذكر في 2009 أنني زرت تونس لعشرة أيام، والآن تبدو لي الأمكنة كالضباب (ما عدا مطماطة) لأنني عبرت تونس من شمالها إلى جنوبها. أردت أن أرى كل تونس، وكان يكفي أن أقضي الأيام العشرة في مكانين، لكنني طمعت وطفت في تونس والقيروان حتى توزر ثم دوز وصفاقس وجربة ونابل وسوسة والعاصمة.
رأيت كل شيء في عشرة أيام، وأن ترى كل شيء كأنك لم تر شيئًا، يمكن القول إذن إنني سائح تنقصني الجدية، كالثائر على شيء ما ويظهر في التو واللحظة في فيسبوك لايف. أنت ثائر غير جاد. حين تقرأ في بضع دقائق خبرًا عن مجزرة وداخل الخبر كلمة مفتاحية (سوريا مثلا) تفتحها وتؤدي بك إلى كلمة مفتاحية: حلب، ثم الكباب الحلبي، والحلبي سيؤدي بك إلى سليمان الحلبي، ومن يمين الشاشة لن تغفل خبرًا عن امرأة طلبت الطلاق من زوجها لأنه “مسيّف” اسمها في موبايله “غوانتانامو” وبالخطأ ستدوس بإصبعك خبرًا عن الروهينغا.
أن ترى كل شيء كأنك لم تر شيئًا، لا يمكن لثورتك أن تظهر نتائجها على فيسبوك بعد ربع ساعة. أشخاص نادرون عليهم توثيق ما يجري على يد الغالبية. غير أن هناك غالبية أكثر غالبية من الأولى وهذه الغالبية ستنشئ من بيوتها الهاشتاغ الذي سيكسّر الدنيا.
الحقيقة أن الهاشتاغات زادت وزاد لمعانها على الشاشات والأنظمة زادت وقاحتها، وهي باتت تعلم أن كل ما يلمع في شاشات الهواتف الذكية سيلمع حتى انتهاء بطارية الشحن.
لقائل أن يقول إن الناس تجمعت في الحيز العام عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي والمسيجات، لا أريد إنكار التكنولوجيا وما تفعله وترسخه، وإلا ماذا أفعل الآن سوى أنني أكتب على كمبيوتري لأنشره في صفحة فيسبوك وأنتظر اللايكات؟
لو تخيلت أن ناشطًا سيبلغ الجموع في بيوتها الخروج للمظاهرة من دون موبايلات، فسيخبرهم عن طريق المسيجات أو مواقع التواصل، وسيلتقون في الشارع وسيقضون نصف ساعة وبعضهم يخبره أنه امتثل لتعليماته والبعض الآخر لم يستلم الرسالة لأن النت ضعيف. في هذا الوقت سيكون طرزان أطلق صيحته مباغتًا الجمع، وسيأكل الناشط الهواء لأنه فوت على الذين لم يحضروا الموبايلات توثيق اللحظة التاريخية.
ما أدافع عنه هو أن العالم أصبح أقل جدية وهو يذهب إلى العرس والعزاء والثورة بواسطة “نافيغيتر”.
حين تعجز عن الوصول إلى مكان من دون أن يرسل أحد لك “اللوكيشين” على الواتساب، هذا يعني أنك دجاجة مزرعة.
نحن نقتات على الصور والفيديوهات كما العلف… علفنا الذي لا نعيش من دونه ويغرينا أننا طوال الوقت تحت الضوء.
حين تشتري دجاجة عليك أن تعلم أن جزءًا من ثمنها هو الضوء، فأصحاب المزارع الجشعون ماذا يفعلون؟ يضيئون الأنوار فوق الدجاج حتى يمنعوه من النوم ليدفعوه لفعل شيء وحيد هو أكل العلف ليسمن خلال شهر ونصف ويباع بوزن عال وتُجنى الأرباح.
أنت أيضًا لا تشبع من الضوء والعلف وتتوهم أن العالم أصبح مكشوفًا أمامك وأنك تنتصر في حربك ضد قامعي الشفافية بينما لا يوجد في الحقيقة أكثر شفافية من لباسك الداخلي.
إن أنس لا أنسى رجلًا كبيرًا في السن كان يعبر على هامش ميدان التحرير، وهناك تظاهرة لم تكن عارمة ولكنها متواصلة منذ أربعة أيام. يسأل العجوز عن سبب هذه الجلبة في الميدان فيقول له أحد الأشقياء إن امرأة ضربت زوجها، فيردّ: طب ما تصالحوهم على بعض.. دا ربنا قال حكم من أهله وحكم من أهلها.
هذا الرجل العجوز لا يعلم، وهذا حقيقي وأصيل، أما أنت فتعلم كل شيء، ولكنك لست حقيقيًا وأصيلًا بالقدر الذي يجعلك تعتقد أن العالم أصبح بين يديك قرية صغيرة.