العنف المشروع
د. معتز الخطيب
على خلاف التفسير الشائع الذي يربط بين ظاهرة العنف والنص والتراث، ويرى أنها نقيض الحداثة، لا يمكن تجاهل أن هذه الحركات إنما ظهرت في ظل الدولة القومية أو الوطنية التي تسعى لاحتكار “العنف المشروع”. ولكن فكرة “العنف المشروع” تستند في الأصل إلى مبدأ القانون الذي يعبّر عن الإرادة الجماعية التي يتنازل فيها الأفراد عن جزء من حريتهم للسلطة التي يختارونها وتمثلها الدولة، ومن هنا تُكتَسب هذه الشرعية الحصرية؛ لأنها مستندة إلى الإرادة العامة والتمثيلية، و”المشروع” هنا يعني أنه يستند إلى معايير قويمة يتم من خلالها فرض إرادة الدولة واحتكار العنف داخل سلطة القانون وليس خارجه، أي أن احتكار “العنف المشروع” يأتي لصيانة مصالح الجماعة، وشرعيته تُستَمد من الأسس التي يعبر عنها والمتمثلة في فكرة الدولة وطبيعتها وتركيبتها. ومن ثَمَّ لا يمكن الفصل بين فكرتي: “العنف المشروع” ومفهوم “الدولة”.
وبما أن “دولتنا” تنتمي إلى الدول الفاشلة ولا تعكس الإرادة العامة ولا تمثل جماعة المواطنين ولا ترعى مصالهم منفردين ومجتمعين، فستتحول فكرة احتكارها “للعنف المشروع” إلى عنف عميم منفلت من أي معيار سوى أن شرعيته نابعة من كونه صادرا عن هذا النظام الممسك بزمام الدولة، فتتحول فكرة “الدولة” إلى أداة قمعية لا غير، ويتحول كل فعلٍ معارِضٍ لها ولإرادتها السلطوية إلى “عنف غير مشروع”؛ بحجة أنها وحدها تحتكر العنف المشروع، وأنها هي التي تفرض الوضوح الأخلاقي فتحدد ما هو مشروع أو غير مشروع.
وفكرةُ احتكار “العنف المشروع” مبنية على افتراض أن العلاقة بين البشر قائمة على التنازع والاحتراب أساسًا؛ نظرًا لتعارض مصالح الأفراد واستئساد بعضهم على بعض، ومن هنا تتأسس شرعية وجود جهة واحدة مخولة باحتكار هذا العنف التكويني – المُفتَرَض – لتقليصه قدرَ الإمكان وفق معايير تعكس إرادةَ المجموع ومصالح الجماعة. فشرعية العنف ناتجة عن شرعية الدولة وقيامها بوظائفها المصلحية، لا أن العنف مشروعٌ لمجرد أنه صادرٌ عن “دولة” سواءٌ اتصفت بالشرعية أم لا، سواءٌ قامت بوظائفها أم لا. فغياب هذه الشرعية يحول عنف الدولة إلى عنف عارٍ. ولهذا لا يمكن بحث العنف أو فهم ظاهرته بمعزل عن بحث مسألة شرعية الدولة نفسها؛ فما يَصدر عنها من ممارسات وسياسات لا يكتسب شرعيته الأخلاقية إلا من شرعية الجهة الصادرة عنه أولاً ومن شكل هذه الممارسة ومدى احترامها للمعايير التي تعبر عن الجماعة ثانيًا، وفي حالة غياب الشرعية والمعايير نكون أمام عنف وعنف مضاد يدعي كلٌّ منهما الشرعية ويكون الخاسر الأكبر فيه هو الجماعة التي تقع ضحية عنف مزدوج.
ولكن هذا الربط بين الوسيلة والمقصد، أو بين شرعية السلطة وشرعية ممارساتها، يضطرنا إلى توضيح الانفصال الذي وقع مع شرعنة “الحاكم المتغلب” تاريخيًّا. فمَن أَضفَوا الشرعية على التغلب قاموا بجملة موازنات بين المصالح والمفاسد، وانتهى بهم الأمر في سياق تاريخي محدد وفي “الدولة التاريخية” إلى إضفاء شرعية على وسيلة التغلب؛ بحصول الرضا والتسليم لهذا المتغلب بأن يستتب له الأمر وتنقاد له الناس، أي أن حالة الإكراه صارت إلى حالة رضا وتسليم من عموم الجماعة، كما أن مقاومة الشوكة القاهرة التي مكّنت المتغلّب ودفعت الناس إلى الرضا محفوفةٌ بمخاطر الفتنة وسفك الدماء. ولكن المسألة لا تقف عند مطلق شرعية الوسيلة دون النظر إلى سياقها التاريخي، أي أن شرعنة التغلب كانت حالة ضرورة واستثناء، وهذه الضرورة محكومة لواقع محدد فلا يمكن أن تكتسب شرعية المبدأ، خصوصًا أن درجة أخلاقية الفعل تختلف بحسب زمانه: قبل وقوعه وبعده. ومن جملة المصالح التي لحظوها هنا أن يؤدي الحاكم المتغلب الوظائف التي تصون مصالح الجماعة، فالتغاضي عن طريق وصوله إلى السلطة تم لأجل الحفاظ على مقصد وحدة الجماعة ووحدة دار الإسلام، فالموازنة كانت تتم بين فقدان الوسيلة ورعاية المقصد، أي أن شرعنة التغلب بُنيت على مبدأ النفعية (المصالح والمفاسد)، والعواقبية (مآلات الأفعال)، فلجأ هؤلاء الفقهاء إلى المرونة في “الوسيلة”، وارتكاب أدنى المفسدتين في سبيل الحفاظ على المقصد.
ولا بد من التنبه إلى السياق التاريخي لهذه الموازنة الأخلاقية وحيثياتها، ذلك أن سلطة الدولة التاريخية وأدواتها في الضبط والتحكم والقمع ليست هي سلطة الدولة الحديثة، ومن ثم فقدرتها على التغول كانت محدودة، والعلاقة بين الدولة والمجتمع كانت مغايرة أيضًا لجهة تشكيلات المجمع التقليدية وبُناه الذاتية التي كانت بمعزل عن سلطان الدولة (أصحاب الأصناف: الحرفيون والصناع وغيرهم، والأوقاف وغيرها)، كما أن الدولة التاريخية لم تحظ بهذه القدرة الهائلة على التنظيم والتغلغل في تفاصيل حياة الأفراد من الولادة حتى الممات عبر “قيد النفوس” والملفات الأمنية لكل فرد. بالإضافة إلى أن طبيعة التفكير والانشغالات والتحديات كانت مغايرة.
فالإشكال اليوم يقع في المقايسة بين واقع الدولة الاستبدادية القمعية وواقع الدولة التاريخية. فالدولة القومية الاستبدادية فقدت شرعية الوسائل وشرعية المقاصد والوظائف وامتلكت قدرات هائلة على الضبط والتحكم والقمع محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا مدعومة بتقنيات واسعة، ومع كل ذلك تسعى إلى فرض إرادتها القمعية بالعنف الذي تضفي عليه شرعية “العنف المشروع” للدولة الحديثة، فيتفاقم المأزق وتنشأ جماعات في مواجهتها وتتقعد الإشكالية فنجد أنفسنا أمام ظاهرة العنف المركبة. أي أن إحالتها إلى التراث أو التاريخ أو النص هو تَساوق مع منطق الاستبداد نفسه ومصادقة على عنفه المنفلت بلا معايير، وقصورٌ عن فهم هذه الجوانب الفكرية والتحولات التاريخية.
يفشل مثقف السلطة – أخلاقيًّا – حين يستدعي فكرة “الدولة التي تحتكر العنف المشروع” لتسويغ استبداد الأنظمة ولإدانة خصومها الخارجين المفتَرَضين على “الشرعية” الممثلة بالدولة/النظام؛ لأنه يعزل الفكرة عن سياقها وأصولها، وكذلك يفشل مفتي السلطة – أخلاقيًّا – حين يستدعي “فقه الطاعة” التاريخي لقهر الناس بسلطان الدين في خدمة سلطان الدولة التي تفتقر إلى شرعية الوسائل والوظائف والغايات (تغييب الجماعة وغياب المعايير القويمة).
فجماعات العنف تنشأ في هذا السياق وفي مواجهة عنف الدولة الاستبدادية، مدفوعةً بهواجسها ومتمثلة لأفكارها، فالتنافس يقع بين الطرفين على احتكار “العنف المشروع” والسعي إلى الضبط والتقنين في غياب للجماعة ومصالحها وللمعايير التي تعبر عنها، ولذلك لم يكن غريبًا أن يعتبر أوليفيه روا تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به جزءًا من حركة مناهضة العولمة تحت عنوان “الإرهاب الديني”، وأن النظم العلمانية الشمولية في العالم الإسلامي هي التي فرّخت الشباب الذين قاموا بعمليات العنف والتفجير. وكذلك فعل جان بودريار الذي اعتبر أن النظام العالمي المهيمن يقتضي – بالضرورة – وجودَ إرهاب لكي يستمر في العمل والسيطرة؛ لأنه من دون إرهاب سينهار هذا النظام، أي أن توطؤًا عميقًا ينشأ بين الخصمين فيستخدم أحدهما الآخر، فنظام الهيمنة يحمل نقيضه ويُنتج عنفه، فالنظام اللاأخلاقي ينتج حركات عنيفة هي لا أخلاقية أيضًا، أي أننا نتحدث هنا عن غياب “العنف المشروع” المستند إلى معايير أخلاقية والمعبر عن مصالح الجماعات.
قد يبدو مفهومًا بعد هذا كله كيف تشتغل “لعبة الإرهاب” التي يحاربها الجميع الآن، وفي الوقت نفسه يتهم الجميع بعضه بعضًا بالإرهاب؛ لأن المفهوم غير محدد ولا يُراد له أن يُحدد، لأن طاقته في غموضه ومرونته، وأهميته في سعته وانفتاحه على كل الخيارات والأزمنة والجماعات، وهو دليلٌ مَكين على تغييب السياسة أو تقليصها منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإعادة إنتاج الإرهاب هي إمعانٌ في رفض السياسة وإيثارٌ للقمع ونفي أي معارضة، ولذلك فقد مصطلح “الإرهاب” المسحة الأخلاقية التي كان يُفتَرض به أن يعبر عنها، نتيجة زئبقيته وغموضه حتى بات لعبة مبتذلة تعكس نسبية مفرطة تتبدل بحسب المصالح وحسابات الزمان والمكان!.