الفطرة والرفاهية *
إن توافق الإنسان مع الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها من السبل الهامة المؤدية إلى الرفاهية التي يتطلع لها الإنسان في زمان ومكان. وكل أمر يصادم الفطرة السليمة لا يمكن أن يؤدي إلى الرفاهية بحال من الأحوال والعواقب الوخية لمصادمة الفطرة نجدها في تاريخ الأمم الغابرة وفي حاضر الدول المتقدمة التي وفرت لمواطنيها كل أسباب ووسائل الرفاهية فزادتهم طغياناً وتكبراً وتجبراً على الأمم الأخرى
وحولت حياة الشعوب إلى معاناة مستمرة تتجلى في انتشار الأمراض النفسية التي تدفع الكثيرين منهم للانتحار وفي الأمراض العضوية الخطيرة التي تصيبهم نتيجة الممارسات المحرمة كمرض الإيذر وغيره. وعن أخبار الأقوام الذين مضوا وامتلكوا من أسباب القوة وما نتج عنها من رفاهية ورغد في العيش ما لم يمتلكهم غيرهم يحدثنا القرآن الكريم عن قصة نبي الله هود عليه السلام مع قوم عاد، يقول الله عز وجل:{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}. سورة الشعراء: 128-130.
وعن قصة نبي الله صالح عليه السلام مع قوم ثمود يقول الله عز وجل:{ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}. سورة الشعراء: 146- 149.
فهؤلاء الأقوام لم تغن عنهم قوتهم شيئاً عندما خالفوا أوامر الله عز وجل وعصوا رسله وأفسدوا في الأرض فأهلكهم الله عز وجل وأذاقهم بأساً شديداً.
وعندما تنتكس الفطرة يهبط الإنسان الذي خلقه الله عز وجل بيده وأسجد له ملائكته إلى ما دون مرتبة الحيوان فترى ذئاباً تعوي وأفاعي رقطاء تتمايل يميناً وشمالاً وتنشر سمومها ويصبح كل فرد أسيراً لشهواته ونزواته فهي التي تحركه وهي التي تدفعه إلى ارتكاب المحرمات.
وعندما تنتكس الفطرة لا يراعي الإنسان أي حرمة ويقع في الكبائر وعظائم الذنوب، فينتشر زنا المحارم ويقتل الإبن أباه أو أمه أو يقتل أخاه من أجل عرض زائل.
وأبرز مظاهر مخالفة للفطرة هي اتيان الذكر للذكر واتيان الأنثى للأنثى، لأن الله سبحانه وتعالى ركب في البشر غريزة حب الجنس الآخر والميل إليه، لتحقيق عمارة الأرض من خلال الزواج والاستقرار وإنجاب الأولاد وتكوين الأسرة التي هي نواة كل المجتمعات، يقول الله عز وجل:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} سورة آل عمران: 14.
واللواط والسحاق أكبر مخالفة للفطرة حتى الحيوانات لا تأتي بمثل هذه الأعمال المنكرة التي تعطل حركة الحياة فبديهي أن هذه العلاقة المحرمة لا يمكن أن ينتج عنها أولاد ولا أن يكون من وراءها أسرة، ناهيك عن الأمراض المستعصية التي لا يوجد لها علاج بسبب هذه الممارسات الشاذة.
والإسلام منهج حياة شامل جاء لينظم الرغبات الجنسية لا ليمنعها وجاء ليحمي المجتمعات من الفاحشة والرذيلة ويصون الأعراض ويحفظ الأنساب، ولذلك جعل الله عز وجل الزواج أية من آياته في الكون يقول تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم: 21.
والله سبحانه أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث يقول تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة الأعراف: 33.
ومخالفة الفطرة تعتبر بمثابة إعلان الحرب على الطمأنينة والأمان النفسي، وإعلان للحرب على كل القيم الفاضلة والمفاهيم الصحيحة التي جاءت بها الديانات السماوية وهي ردة بعد العلم والمعرفة إلى عصور الجهل والتخلف والظلام وهبوط متسارع نحو الهاوية يقول الله عز وجل:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الأعراف: 175- 176.
وعندما تنتكس الفطرة يفقد الإنسان طبيعته الاجتماعية ويفقد رغبته في الانضمام إلى الآخرين وتكوين تجمعات وكيانات بشرية، وتسود النزعات الفردية، ويلهث كل واحد منا خلف نزواته ورغباته ويضحي بالجميع من أجل متع وقتية لا تلبث أن تزول مخلفة وراءها الحسرة والندم.
وعندما تنتكس الفطرة يستمتع البعض ويتلذذ بامتصاص دماء الفقراء والمحتاجين وتنتفخ بطونهم بألوان الطعام والشراب ويموتون بالتخمة. وعندما تنتكس الفطرة ينطلق المارد الكامن بداخلنا ليعربد في كل الأرجاء، وعندها تسود شريعة الغاب بل تظهر شرائع أسوأ منها، فلم يعد القتل دفاعاً عن النفس واستجابة لغريزة حب البقاء، وإنما أصبح شهوة ورغبة جامحة في إقصاء الآخرين وإبادتهم إذا لزم الأمر. وعندما تنتكس فطرة الإنسان فإنه يهبط إلى ما دون مرتبة الحيوان لأن الحيوانات ليس لها عقول تفكر بها وليست مكلفة وفوق ذلك كله تقوم بالمهمة التي خلقت من أجلها على أكمل وجه، أما عندما ينحرف الإنسان الذي كرمه الله عز وجل بالعقل وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لهداية الناس، فتلك هي الطامة الكبرى يقول تعالى:{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سورة الفرقان: 43-44. يقول الله عز وجل:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سورة الروم: 30.
فهل من عودة لتلك الفطرة؟