اللغة والهوية
محمد خاطر
هناك مخاطر حقيقية تتعرض لها اللغة العربية في الوقت الراهن واللغة العربية أصبحت في صراع مرير مع اللغات الأجنبية ومع اللهجات المحلية التي تهدد وجودها وتخصم من رصيدها وتقلل من تواجدها وحضورها واستعمالها في الحياة اليومية.
واللغة من أهم المكونات والمقومات الثقافية للشعوب وليست مجرد حامل أو وعاء للعلم والثقافة وهنا تكمن خطورة استبدال اللغة الأم باللغات الأجنبية في التعليم وفي التعاملات اليومية فالذين يستخدمون اللغات الأجنبية في التعليم وفي شؤون الحياة اليومية عوضاً عن لغتهم الأصلية يتشربون ثقافة اللغة التي يدرسون أو يتحدثون بها وتتسرب إلى نفوسهم الأفكار والمبادئ التي يتبناها أصحاب هذه اللغة وهذا الأمر مشاهد وملموس عند قطاع عريض من ضعاف النفوس الذين يستخدمون اللغات الأجنبية في تعاملاتهم اليومية.
ومن هؤلاء من فتن باللغة الإنجليزية وصار يدافع عنها أكثر من دفاعه عن اللغة العربية وحجتهم في ذلك أن اللغة الإنجليزية هي لغة العلم والتقدم والتكنولوجيا ومنهم من تشبع بالثقافة والمفاهيم الغربية وأصبح يفضلها على القيم والمبادئ العربية والإسلامية وهؤلاء يزعمون أن النموذج الغربي السائد حالياً والذي يحاول الغربيون تعميمه بل وفرضه على العالم هو النموذج الأفضل.
محاولات إقصاء اللغة العربية
اللغة العربية ليست مجرد لغة للحديث والتخاطب والكتابة والتأليف فاللغة العربية لها خصوصيتها المتعلقة بالقرآن الكريم الذي نزل باللغة العربية والابتعاد عن اللغة العربية يعني بالضرورة الابتعاد عن الدين وعن فهم القرآن والسنة الفهم الصحيح وهذا هو الهدف الذي يسعى إليه أعداء الأمة من محاربة اللغة العربية وإحلال اللغات الأجنبية مكانها فالأمر إذن ليس مجرد تعلم لغة أجنبية لتحصيل العلوم والمعارف وإنما حرب معلنة على الهوية وعلى الثقافة العربية والإسلامية.
واللغة الإنجليزية تطرح في الدول العربية وكأنها قضية مصيرية ومطلب ملح لا غنى عنه من أجل الحصول على تعليم جيد والحصول على فرصة عمل جيدة ولذلك نأمل من الحكومات العربية أن تسعى للحفاظ على اللغة العربية كما تسعى لفرض اللغة الإنجليزية في التعليم وفي التوظيف.
وهناك أسباب كثيرة روجت للغات الأجنبية واللغة الإنجليزية على وجه الخصوص في الدول العربية ومن هذه الأسباب التوسع الكبير في إنشاء الروضات والمدارس والمعاهد والجامعات التي تدرس مناهجها باللغة الإنجليزية.
ومنها اشتراط الحصول على شهادات كالتوفل والأيلتس من أجل دخول الجامعة أو من أجل استكمال الدراسات العليا وهذا الأمر أدى إلى حرمان الكثير من الخريجين من مواصلة الدراسة والانخراط في مجال البحث العلمي.
والحرمان من استكمال الدراسة ومن البحث العلمي بحجة عدم اتقان اللغات الأجنبية يؤدي إلى الجهل والتخلف والتبعية للآخرين في كافة المجالات لأن نتيجة هذا الحرمان هي قلة عدد الباحثين وقلة عدد براءات الاختراع وغياب التطوير والاعتماد على استيراد الفنيين والخبراء من الخارج.
ومن الأسباب التي أدت إلى زيادة الاهتمام باللغة الإنجليزية في العالم العربي ربط التوظيف والحصول على الوظائف المرموقة باتقان هذه اللغة فالأولوية في التوظيف وشغل المناصب العليا في الدول العربية تمنح الآن للدارسين في الغرب ثم الدراسين في المدارس الأجنبية ثم من يحسنون اللغة الإنجليزية وأخيراً خريجي الجامعات الحكومية.
مخاطر اللغات الأجنبية
تعلم اللغات الأجنبية وفي مرحلة الطفولة بصفة خاصة ينطوي على مخاطر عديدة فهناك مخاطر على العقيدة ومخاطر على الثقافة ومخاطر على الهوية ومخاطر على أسلوب ونمط الحياة وعلى السلوكيات اليومية للأفراد.
فتعلم الأطفال للغات الأجنبية في ظل غياب الرقابة من الأهل ومن الجهات المسؤولة عن العملية التعليمية فتح المجال أمام التبشير والتنصير في البلاد العربية والإسلامية فهناك العديد من المحاولات التبشيرية والتنصيرية لأطفال المسلمين في المدارس الأجنبية التي كشف عنها في أكثر من بلد عربي وإسلامي وما خفي كان أعظم.
ومن هذه المخاطر الترويج لمفهوم الاختلاط بين الجنسين فالمدارس والجامعات الأجنبية تقوم على الاختلاط بين الجنسين وتحاول أن تجعل الاختلاط أمراً عادياً بين الطلاب والطالبات وبين الطالبات وأعضاء هيئة التدريس في الوقت الذي يطالب فيه خبراء التربية في الغرب بضرورة الفصل بين الجنسين في التعليم وفي الوقت الذي تنتشر فيه المدارس التي تفصل بين الجنسين في عدد كبير من الولايات الأمريكية وفي أماكن أخرى من العالم.
ومن مخاطر تعلم اللغات الأجنبية على حساب اللغة الأم الاحساس بالدونية وضعف الانتماء وخلق أجيال فاقدة لهويتها واعتزازها بالانتماء للإسلام وللعروبة.
وللغة أثرها المباشر على العادات والمفاهيم والأفكار واللغات الأجنبية تحمل مفاهيم تختلف عن مفاهيم الإسلام وعن نظرته للحياة.
والأثار السلبية للتعلم باللغات الأجنبية تظهر في جميع المجالات فالمعلم الذي درس اللغات الأجنبية وآدابها سينقل لطلابه الأفكار والمفاهيم التي تأثر بها ومال إليها حتى وإن كانت خاطئة. والمناهج الدراسية المستوردة من الغرب تحمل مفاهيم تتعارض مع المفاهيم الإسلامية والحديث عن حياد العلوم الطبيعية يصبح أكذوبة عندما تدرس هذه العلوم على الطريقة الغربية فقد احتوت كتب العلوم المستوردة من الغرب على صور جنسية فاضحة واحتوت كذلك على دعوات لشرب الخمر حفاظاً على الصحة!
ومن مخاطر التعلم باللغات الأجنبية فشل الدارسين بها في تحقيق المعدلات المطلوبة في المواد العلمية كالعلوم والرياضيات والدول التي تقدمت كانت حريصة على أن يكون التعليم باللغات المحلية وهو ما يدعو إليه الخبراء في المجالين التعليمي والتربوي.
وإهمال اللغة العربية في التعليم وفي المجالات الأخرى من الأسباب التي أدت إلى ضعف المحتوى العربي على الإنترنت والمساهمة في زيادة المحتوى الإنجليزي فالمحتوى العربي على الإنترنت لا يتعدى نسبة 1% من المحتوى العالمي للشبكة العالمية ونسبة التراث العربي والإسلامي المسجل على الشبكة العالمية لا تتجاوز نحو 16% مما تم تسجيله على قائمة التراث العالمي.
تغلغل اللغات الأجنبية في المجتمع
عندما يفقد أفراد المجتمع هويتهم واعتزازهم بلغتهم الأم وعندما يضعف انتماؤهم تكون الفرصة مهيئة والطرق مفتوحة وسالكة أمام تغلغل اللغات الأجنبية بما تحمله من مضامين ثقافية مغايرة تماماً لثقافة المجتمع.
واللغة الإنجليزية انتشرت في الآونة الأخيرة وبشكل مخيف وهذا الانتشار حصر اللغة العربية في نطاق ضيق جداً ففي بعض الدول العربية على سبيل المثال لا تستطيع الحصول على وظيفة أو على أي نوع من الخدمات ما لم تكن ملماً باللغة الإنجليزية وهناك محاضرات وندوات عامة تقام في بلاد عربية وتناقش قضايا عربية ولكنها تقدم باللغة الإنجليزية!!!
وضعف وتخلف المجتمعات العربية كان سبباً في انتشار اللغات الأجنبية وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية فقد انتقل الحرص على استخدام اللغة الإنجليزية من بعض الفئات ومن القطاع الخاص إلى القطاع العام ثم فرضت اللغة الإنجليزية على التعليم وهو أمر غاية في الخطورة لأننا وبكل بساطة سوف نخسر الأجيال القادمة. وتوجه الأنظمة إلى اعتماد التعليم باللغات الأجنبية يمثل الحلقة الأخيرة والخطيرة في تغريب المجتمعات العربية والمسلمة.
والقول بأن اللغة الإنجليزية أصبحت لغة العلم والمعرفة في العصر الحالي صحيح ولكن ذلك لا يعني مطلقاً التخلي عن اللغة العربية في التعليم فأصل العلوم التي يطالبون بتدريسها باللغة الإنجليزية كالرياضيات والعلوم أصلها عربي وإسلامي والعلماء العرب والمسلمون هم الذين وضعوا أسس هذه العلوم وباللغة العربية وأخذها الغرب عنهم كما هي وعندما نعود لتدريس تلك المواد باللغة العربية فتلك بضاعتنا ردت إلينا وينبغي علينا أن نسهم في تطويرها.
والدراسة باللغات الأجنبية ليست شرطاً للتقدم والنهوض والارتقاء في المجال العلمي والنابهون من الطلاب والباحثين الذين درسوا في الغرب لم يواجهوا أية مشكلة فيما يتعلق باللغة في الغرب فسرعان ما يجيد هؤلاء التعامل باللغة الأجنبية والكثير من العلماء العرب الذين درسوا في الغرب وعملوا فيه لسنوات طويلة لم ينبهروا باللغات الأجنبية وحافظوا على لغتهم العربية .
تهميش اللغة العربية والهزيمة الداخلية
صراع الغرب مع العرب والمسلمين والمستمر منذ قرون له أبعاد كثيرة ومن الأبعاد الخطيرة التي أخذها هذا الصراع محاربة اللغة العربية بكل الوسائل المتاحة وآخرها فرض التعليم باللغة الإنجليزية تحت مسميات تحديث وتطوير التعليم.
والغرب يريد أن يهزمنا داخلياً وبأيدي بني جلدتنا ممن فتنوا بالغرب وصاروا يدافعون عن قيمه وعن مدنيته وحضارته الزائفة.
ومحاولة فرض النموذج والتصور الغربي للحياة بصفة عامة يتم من خلال العمل على إضعاف الهوية والانتماء والوسيلة المستخدمة في ذلك هي نشر اللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية. وفي هذا الصراع نجد حساسية مفرطة لدى العديد من الدول الغربية تجاه اللغات الأجنبية وتجاه المظاهر الإسلامية بحجة المحافظة على الهوية وعلى أسس النظام العلماني وفي المقابل نجد تساهلاً في الشرق يصل إلى حد التفريط والتخلي عن الثوابت ارضاء للغرب.
إن تعلم اللغات الأجنبية أمر مهم لا بد منه ولكن ينبغي أن يكون هناك توازن في تعلم اللغات الأجنبية بجانب اللغة الأم والطفل لا ينبغي أن يتعلم لغة أجنبية حتى يتقن اللغة الأم. وتعلم اللغات الأجنبية مطلوب “فمن تعلم لغة قوم أمن مكرهم” وثنائية اللغة ممكنة والتحديث لا يعني بالضرورة إقصاء اللغة الأم وإحلال اللغات الأجنبية مكانها.
والمحافظة على اللغة العربية تتطلب أموراً منها:
أولاً: الحرص على تعليم الأطفال اللغة العربية الفصحى منذ نعومة أظفارهم ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال تعميم برنامج ” تعلم اللغة العربية بالفصحى بالفطرة والممارسة” الذي أعده الدكتور عبد الله الدنان وحقق نجاهاً كبيراً.
ثانياً: الاهتمام بتعريب العلوم والحرص على تدريس المواد العلمية كالرياضيات والعلوم باللغة العربية.
ثالثاً: الحرص على استخدام اللغة العربية الفصحى في وسائل الإعلام المختلفة وتقديم برامج تظهر جماليات اللغة العربية في العلم وفي الأدب وقدرتها على مسايرة العصر ومواكبة التطور.
رابعاً: تشجيع الطلاب على الخطابة وكتابة الشعر والقصة وكتابة البحوث باللغة العربية والاهتمام بالإذاعة والصحف المدرسية.
خامساً: إنشاء مواقع على الإنترنت لتعليم اللغة العربية لأصحابها ولغير للناطقين بها وتشجيع الطلاب والمثقفين والباحثين على إثراء المحتوى العربي على الإنترنت وذلك من خلال نشر أرائهم وكتاباتهم وأبحاثهم في المواقع المختلفة.
ساساً: إنشاء مراكز لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وتشجيع الجاليات غير العربية على تعلم اللغة العربية.
إنها دعوة نتوجه بها للجميع لإنصاف اللغة العربية وتدارك استفحال خطر اللغات الأجنبية في المجتمعات العربية والإسلامية قبل فوات الأوان.