تواجه البيئة البحرية الكثير من التهديدات التي تأتي من داخلها ومن خارجها، وتنذر بعواقب وخيمة ما لم يتم تدارك الأمر، ويقوم الأفراد والمنظمات والمؤسسات بواجبهم نحو حماية هذه البيئة التي تُعد مصدرًا للخيرات والثروات، وركنًا أساسيًا في المحافظة على التوازن البيئي.
وما تعاني منه البيئة البحرية من تلوث وما ينتظرها من تهديدات، يحدث بفعل الإنسان وأنشطته غير المسؤولة، يقول الله عز وجل:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 79).
ويقول الله عز وجل:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41).
أهمية البيئة البحرية
البيئة البحرية من المصادر الرئيسية للكثير من الخيرات والثروات التي ينتفع بها الإنسان، وهذا الانتفاع ناتج عن تسخير الله عز وجل هذه البيئة للإنسان، يقول الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14).
والبيئة البحرية تُعد مصدرًا لحوالي 50% من الأكسيجين الذي يتنفسه الإنسان وتنتجه الطحالب والنباتات المائية.
والبحار والمحيطات هي مصدر الأمطار التي تهطل على الأرض وتستخدم للشرب والزراعة وغيرها من الأنشطة، وهي ناتجة عن عمليات تكثف بخار الماء المتصاعد من سطح المحيطات.
والمحيطات هي موطن وموئل حوالي 80% من الكائنات الحية على الأرض، وبالإضافة للخيرات والثروات التي يستخرجها الإنسان من البيئة البحرية، هناك التجارة البحرية، والتي تمثل حوالي 90% من تجارة العالم، وتبلغ عائداتها السنوية خمسمائة مليار دولار.
والبيئة البحرية ستصبح في المستقبل القريب مصدرًا للحصول على الوقود الحيوي من الطحالب البحرية، فهناك العديد من الأبحاث التي تُجرى حاليًا لإنتاج وقود حيوي من الطحالب.
وحجم الصادرات السمكية في عام 2016م، بلغ 143 مليار دولار، والأعشاب البحرية 1.7 مليار دور، والنباتات المائية أكثر من مليار دولار.
واستهلاك الإنسان للأسماك في تزايد مستمر، فقد ارتفع متوسط استهلاك الفرد من 9 كغم في عام 1961م إلى 20 كغم في 2015م، وهو مؤشر على اعتماد شريحة واسعة من البشر على الأسماك في نظامهم الغذائي.
مصادر تلوث البيئة البحرية
مصادر تلوث البيئة البحرية منها ما داخلي كالانسكابات النفطية، وصرف مياه التوازن، والتسربات الكيميائية، ومنها ما هو خارجي كالمخلفات البلاستيكية التي يتم التخلص منها بإلقائها في البحر، وتقرير الأمم المتحدة يشير إلى أن البشر يلقون في المحيطات سنويًا حوالي 13 مليون طن من النفايات البلاستيكية، وكل عام تفقد البحار 100 ألف حيوان، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن 99% من الطيور البحرية ستكون قبل ابتلعت مواد بلاستيكية بحول عام 2050م.
الانسكابات النفطية
تسرب النفط يُعد من أكبر وأخطر المهددات للكائنات البحرية وللبيئة البحرية بشكل عام، وحوادث تسرب النفط خلفت دمارًا وآثارًا بيئية خطيرة.
ومن أخطر حوادث التسربات النفطية، حادثة التسرب النفطي في مياه الخليج في يناير عام 1991م عندما قام الجيش العراقي بسكب النفط الكويتي في مياه الخليج بمعدل يومي يقدر بـ 6000 برميل، والتسرب النفطي في خليج المكسيك في أبريل عام 2010م الذي أدى إلى تسرب أكثر من 4500 برميل، وقد تسببت هذه الكارثة في مصرع نحو 82 ألف طائر، و6.1 ألف سلحفاة بحرية، و25.9 ألف من الثدييات البحرية.
والمخاطر البيئية للتسربات النفطية تتمثل في موت الطيور والثدييات البحرية، والآثار السلبية التي تخلفها على النباتات والعوالق البحرية، نتيجة حجب البقع الزيتية لأشعة الشمس، وعجز هذه النباتات عن القيام بعملية التمثيل الضوئي.
صرف مياه التوازن
مياه التوازن (Water balance) هي المياه الموجودة داخل السفينة أو الناقلة التي تنقل الزيت ومشتقات البترول، وتستخدم هذه المياه لتحقيق التوازن للناقلة أو السفينة عندما تبحر وهي فارغة، ومشكلة تلك المياه أنها تحمل معها كائنات وعوالق بحرية دقيقة تؤثر على المدى البعيد في التركيبة البيولوجية للكائنات البحرية، وعلى الموارد الغذائية لتلك الكائنات، وذلك عندما يتم تفريغها في مياه البحار والمحيطات بدون معالجة.
وتفريغ مياه التوازن يؤدي إلى حدوث ظاهرة المد الأحمر، وذلك نتيجة احتواء هذه المياه الملوثة على كائنات وعوالق بحرية غريبة ودخيلة على مكان التفريغ.
ومعالجة مشكلة مياه التوازن تتم من خلال تشجيع الدول على الانضمام لاتفاقية (مياه التوازن) وإصدار التشريعات الوطنية المتعلقة بها، وإعداد وتجهيز مراكز متخصصة لاستقبال مياه التوازن، وتضم التجهيزات والمعدات والأحواض اللازمة لاستقبال وترسيب ومعالجة وصرف المواد الملوثة الموجودة في تلك المياه.
التسربات الكيميائية
المواد الكيميائية تُعد من المهددات الخطيرة للبيئة البحرية، لأن معظم المواد الكيميائية لها أضرار على صحة الإنسان، وعلى البيئة وبخاصة البيئة البحرية، وتصنيف الأمم المتحدة المتعلق بنقل المواد الخطرة، والنظام العالمي المتوائم (GHS) لتصنيف المواد الكيميائية الخطرة، كلاهما يتضمن علامة خاصة تدل على المخاطر البيئية للمواد الكيميائية، ولذلك يجب اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث أي تسرب للمواد الكيميائية أثناء نقلها عن طريق البحر.
موجات المد الأحمر
المد الأحمر هو ظاهرة طبيعية بيئية تحدث نتيجة النمو السريع لنوع مؤذٍ أو أكثر من العوالق أو الطحالب النباتية في مياه البحار أو البحيرات ويتسبب في تغير لون المياه إلى اللون الأحمر أو البرتقالي، كما يؤدي المد الأحمر إلى موت الأسماك بصورة غير مباشرة نتيجة تسببه في نضوب الأكسجين المذاب في الماء وقلة الأكسجين تؤدي إلى موت الكثير من الكائنات البحرية.
وأضرار موجات المد الأحمر تتمثل في الرائحة الكريهة، والتأثير على صحة الإنسان، فالمد الأحمر يؤدي إلى تسمم المحاريات وبلح البحر، ويزيد من تركيز السموم فيها، وبالتالي تصبح خطيرة على صحة الإنسان، ويمنع صيدها أثناء ظاهرة المد الأحمر؛ لأنها تؤدي إلى تسمم الإنسان ووفاته.
تأثير وعواقب التلوث البحري
التلوث البحري له عواقب وخيمة على الإنسان وعلى البيئة البحرية بمكوناتها المختلفة، فالإنسان قد يتعرض للإصابة بأمراض خطيرة عندما تنتقل المعادن الثقيلة للجسم عند تناول الأسماك الملوثة.
والتلوث البحري قد يتسبب في حدوث أزمة غذائية؛ لأن ملايين البشر أصبحوا يعتمدون وبشكل كبير على الأسماك كمصدر غذائي.
وهناك مخاطر التلوث البحري بالبلاستيك الذي يطلق غازي الميثان والإيثيلين المسببين للاحتباس الحراري، وقد أظهرت العديد من الدراسات أن مادة “بيسفينول ايه” والمعروفة اختصارا بـ () والموجودة في البلاستيك قد تؤدي إلى اختلال في وظائف الكبد، والإصابة بأمراض القلب والسكري.
والتلوث البحري يؤثر بشكل مباشر على الكائنات البحرية، ويؤدي إلى فقدان التنوع الحيوي في البحار والمحيطات، والتغيرات المناخية ستؤدي إلى زيادة درجة حرارة مياه المحيطات، والاحترار العالمي سيؤدي إلى نفوق الحيوانات التي تبني الشعب المرجانية.
دور الحكومات والجهات المعنية
حماية البيئة البحرية من التلوث بحاجة ماسة لقيام الحكومات بدورها في إصدار التشريعات التي تُجرم تلويث البيئة البحرية، وتلزم المتسببين في الإضرار بها بإزالة الضرر، والتعويض المالي.
ودور الحكومات يجب ألا يقتصر على إصدار التشريعات، ولا بد من التفتيش والرقابة الدورية للتأكد من التزام الشركات بالتشريعات البيئية الخاصة بالبيئة البحرية.
وحماية البيئة البحرية تتطلب تفعيل الاتفاقيات الدولية للمحافظة على الأرواح وحماية مكونات هذه البيئة، ومن هذه الاتفاقيات اتفاقية سولاس:(Safety of Life at Sea) وهي الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحار لعام 1974م وبروتوكولها لعام 1988م، وتم التوقيع عليها في 1 نوفمبر 1974م، وغدت نافذة المفعول في 25 مايو 1980م، والتعديلات اللاحقة على الاتفاقية والبروتوكول.
واتفاقية ماربول: International Convention for the Prevention of Pollution from Ships (MARPOL) التي تم التوقيع عليها في 1973م وتعديلها في 1978م، وتهدف إلى الحد من إلقاء النفايات والتسرب النفطي وعوادم الاحتراق، ودخلت حيز التنفيذ في 2 أكتوبر 1983م.
دور الفرد والمجتمع
التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسان المعاصر، هو خفض وتقليل معدلات الاستهلاك؛ لأن أكثر شيء نجحت العولمة في تحقيقه هو نشر ثقافة الاستهلاك بين البشر، والنجاح الأكبر الذي حققته، هو تحويل الإنسان إلى كائن استهلاكي من الدرجة الأولى، يستهلك كل شيء بدون وعي، ولا يفرق بين النافع والضار، والدليل على النمو الاقتصادي في الأنظمة الرأسمالية هو زيادة الإنتاج، وارتفاع معدلات الاستهلاك، بينما يحث الإسلام على الاقتصاد في استهلاك الموارد الطبيعية، يقول تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31).
ويقول تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء:26).
وفي السنة النبوية نجد النهي عن الإسراف في استخدام الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها الماء، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأُ، فقال:«ما هذا السَّرفُ يا سعدُ؟ قال: أفي الوضوءِ سرفٌ؟ قال: نعم، وإن كنتَ على نهَرِ جارٍ» (السلسلة الصحيحة:7/860).
والحد من الملوثات البيئية يتطلب التحول من الاقتصاد الخطي القائم على الإنتاج أو الاستيراد، والاستهلاك ثم التخلص، إلى الاقتصاد الدائري الذي يقوم على رفض استهلاك المواد التي تلوث البيئة كالأكياس البلاستيكية على سبيل المثال، وخفض معدلات الاستهلاك، وإعادة الاستخدام، وإعادة التدوير.
ومشاركة الجماهير في الحفاظ على البيئة البحرية أمر في غاية الأهمية، ويتطلب القيام بحملات مدروسة ومخطط لها من أجل التوعية بالمخاطر المحدقة بالبيئة البحرية، وأهمية المحافظة عليها.
ووسائل الإعلام المختلفة لها دورها الحيوي والمؤثر في تشكيل نمط وأسلوب الحياة، ولذلك لا بد من تخصيص منصات إعلامية في جميع الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة والمشاهدة تتناول المخاطر المحدقة بالبيئة البحرية، وتشجع الجماهير على اتخاذ موقف إيجابي حيال هذه المخاطر والتهديدات المحتمل حدوثها في السنوات المقبلة، يتمثل بالمشاركة في الحد منها.
وهناك أيضًا الدور المهم الذي يقوم به الناشطون في المجال البيئي، وتقوم به المنظمات غير الحكومية المهتمة بالبيئة في المحافظة على البيئة البحرية، وذلك من خلال المراقبة التي يقومون بها، وحملات الضغط على الشركات الكبرى التي لا تلتزم بالمعايير البيئية وتعرض البيئة البحرية للمخاطر والتهديدات.
ومن الأمور المهمة على الصعيد العالمي، العمل على تحييد البيئة البحرية في الصراعات السياسية والعسكرية في مناطق التوتر والنزاع مثل منطقة الخليج، فالإنسان البسيط، والكائنات التي تعيش في البيئة البحرية، هي المتضرر الأول من التلوث الناتج عن عمليات استهداف السفن، وبخاصة تلك المحملة بالنفط.
الخاتمة
التلوث بات يهدد الجميع، فلم يعد هناك أحد على وجه الأرض بمعزل عن التعرض للتلوث بكل أنواعه، سواء تلوث الهواء، أو التربة، أو الماء والبيئة البحرية.
ومواجهة مخاطر التلوث التي تهدد الحياة على كوكب الأرض وتزيد من معاناة الناس تتطلب الوعي بأهمية المحافظة على النظم البيئية وعدم الإخلال بها، والدعوة للمحافظة على البيئة البحرية التي تشكل جزءًا مهما من النظام البيئي؛ لأن حدوث أي خلل في مكونات هذا النظام سيؤثر حتمًا على النظم البيئية الأخرى، ولذلك ندعو الجميع للقيام بدورهم في المحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث، لتحقيق الرخاء والرفاهية للجميع، وضمان حقوق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعية، وفي بيئة آمنة ونظيفة.
لقراءة المزيد من المقالات على مدونات الجزيرة: