حصيلة الفوضى الخلاقة
– القسم الأول –
أبو يعرب المرزوقي
تونس في 20 . 02 . 1437 – 03 . 12 . 2015
يمكن أن نستنتج من تحديد طبيعة مشروع داعش -من جنس مشروع الخميني ومشروع إسرائيل أي بناء دولة قومية بغطاء ديني- أنه أصبح لدينا في الإقليم ثلاثة مشروعات امبراطورية
ثلاثتها تفترض أن الإسلام السني هو العقبة التي ينبغي محوها بالتشويه والتفتيت.
مشروع إيراني ومشروع إسرائيلي ومشروع بعثي
وثلاثتها بغطاء ديني يستفيد من الفوضى الخلاقة بإلغاء مشروعين آخرين عثماني وعربي قد يتبلورا.
وهذا يقتضي أن يدير الغرب اللعبة لينضج حظوظ البدائل.
سياسيو الغرب الذين على الأرجح يفهمون المشكل هذا الفهم يتعاونون مع الإيراني والإسرائيلي وحتى مع داعش لمنع العثماني والعربي من أي سلطان في الإقليم.
في الظاهر الغرب يدعي الحرب على المشروع الداعشي -البعثي بغطاء سني- لكنه في الحقيقة يستفيد منه لمنع المشروع العثماني والعربي الممكنين.
والدليل على صحة هذه الفرضية أن الغرب يعلم أن الانتصار على المشروع البعثي بغطاء ديني أقل خطر على سلطانه في الإقليم من المشروع العربي العثماني لعلل بينة.
لذلك فهم يورطون العرب والأتراك في معارك جانبية لكن المستهدف الحقيقي هو ثورة العرب والأتراك وليس داعش.
وهذه العلل هي التي تخيف الغرب فيفضل التعاون مع إيران وإسرائيل لعلهما يصبحا شرطييه كما كانا قبل انبعاث المشروع العربي والعثماني الحديث.
والحرب الجارية ليست على الثورة العربية وحدها بل كذلك على النجاح التركي.
الأتراك فهموا الرهان فهما جيدا.
ما يخشاه الغرب -ودلل على خشيته بأمرين هما إفشال الثورة في الشام وفي مصر- هو أن يحقق مشروع ثورة العرب والأتراك الصلح بين الأصالة والحداثة:
لذلك فليس بالصدفة أن تكون تركيا مهددة مثل الثورة العربية الحالية تماما.
لكن الغرب الذي يعلم موازين القوى لذلك فهو لا يستطيع أن يجاهر بخطته:
إفشال الثورة العربية والتركية ومنعها من تحقيق تحالف يمكن من سيادة الإقليم.
ذلك أن تركيا نفسها أصبحت مهددة لئلا تكون نموذج لنهضة عربية سنية.
لذلك يتضح أن الغرب مستفيد من المشروعات الثلاثة الأخرى:
الإيراني والإسرائيلي والبعثي.
وثلاثتها تحلم باستعادة إمبراطورية ما قبل اسلامية:
صفوية وصهيونية وما بين نهرينية.
المشروع البعثي الامبراطوري أو داعش الثانية (لأن داعش الأولى هي الخمينية وقبلها إسرائيل) مجرد أداة مؤقتة بالنسبة إلى الغرب ما يعنيه هو الأداتان البديلتان من العرب والأتراك أعني إيران وإسرائيل (وهما داعشان كذلك أي إنهما فاشية إرهابية)
فكيف نفهم ذلك؟
الجواب يقتضي حل معضلتين:
- الأولى هي خارطة الإقليم المناسبة للرب الجديد في النظام العالمي الجديد
- والثانية هي الانبعاث العربي والعثماني السنيين الحديثين وخاصة منذ الثورة التي هددت الأنظمة العربية وعينت الرهان الجديد: التحديث الأصيل بالنموذج التركي.
فالمعلوم أن خارطة الإقليم بنيت على تنافس القوى الاستعمارية الأوروبية التي زالت بعد الحرب العالمية الثانية وبقيت ثمرتها بسبب الصراع بين القطبين وهي ستزول بزوال ثنائية القطب.
زوال القطب الشرقي جعل الكل في الإقليم يصبح يتيما. لأن
- من كان حليف السوفيات فقد حليفة.
- ومن كان حليف أمريكا لم تعد أمريكا بحاجة إليه.
فتغولت إيران وإسرائيل وبقى العرب كما كانوا في داحسهم وغبرائهم.
ولم يتفق عرب الإقليم على حل بديل يغنيهم عن صراعهم التابع لصراع القطبين
ولم يتفق العرب على المرجعية الجديدة للصراع
فبقي أغبياء العرب في حربهم الأهلية التي مكنت لإيران وإسرائيل من زرع كل الألغام لحماية مشروعهما الأمبراطوري.
إيران وإسرائيل تعتمدان مرجعية دينية في الظاهر لكنها علمانية حديثة في الباطن للقضاء على العرب ثم الأتراك لما أستعادوا هويتهم الإسلامية وابتعدوا عن معاداة العرب التي ورثتها تركيا عن الأتاتركية.
لذلك فهما المستفيدان الأولان من وحدة الرب الاستعماري الذي يتبعانه بعد زوال الربوب الأوروبية أولا وثنائية القطبين ثانيا فأصبحوا محل غزل الجميع :
إيران وإسرائيل أصبحتا ناسجتي كل المناورات التي ليس لها من ضحية إلا السنة وقضاياها.
ليس لقوة يتمتعان بها ويخلو منها وطاب العرب بل لأنهما ذوا مشروع واضح واستراتيجية مدروسة ضد العرب الذين غرقوا في حرب أهلية بين الأنظمة والحركات التي تدعي القومية والأنظمة والحركات التي تدعي الإسلامية.
والغريب أن القومي والإسلامي كلاهما فقد حليفة ونصيره الذي أغرقه في هذه الحرب التي أصبحت مصدر كل مصائب العرب في مرحلتيها التاليتين طيلة ستة عقود.
- فالمرحلة الأولى كانت بين مصر الناصرية والسعودية آلت إلى هزيمة 67.
- والمرحلة الثانية كانت بين العراق الصدامية والسعودية آلت إلى هزيمة 2003.
والنتائج لم تقتصر على الأنظمة بل هي ما نعيشه الآن شعوبا وأنظمة.
بل كان لكلا النظامين المتكلم باسم القومية والمتكلم باسم الإسلام جماعات تخريب للصف المقابل هما بدورهما بينهما حرب بمنزع قومي وإسلامي.
وبذلك أصبح الوطن العربي يعاني من “جنجرينا” مضاعفة في الأنظمة الحاكمة وأجهزة دولها وفي الحركات المعارضة وأجهزة إيديولوجياتها العقيمة:
- حرب أهلية بين الأنظمة
- وحرب أهلية بين المعارضات
- وحرب أهلية بين كل نظام ومعارضته
والكل دمى خيوطها بيد سيدهم.
وفي خلال ذلك استطاعت إيران وإسرائيل أن تمثلا بديلا من الحاميين اللذين زال أحدهما واستغني ثانيهما عن الجميع وبات مطمئما لذراعيه هذين.
إيران صارت ببروبجنداها ممثلة للإسلام المقاوم للغرب بالأقوال وللعرب بالأفعال (والمثال حزب الزمارة) وإسرائيل ببروباجنداها ممثلة للعلمانية المقاومة للإسلام وحليفة الاستبداد والفساد العسكريين لكاريكاتور التحديث.
والكثير يعجب من كلامي في حسنين هيكل:
والعلة هي إدراكي لعقم فكره وحقده على الإسلام حتى جرد مصر من قوتها اللطيفة التي يمدحها عند إيران.
ثم هو مثال الأمي الذي يريد أن يدعي في العلم فلسفة خلطا بين العلاج المعرفي وتخريف العجائز.
هو يعلم أن إيران ليس لها قوة لطيفة غير الإسلام المحرف بـالتشيع الصفوي.
لكنه يحارب قوة مصر اللطيفة -الإسلام السني- ليواصل حرب القومية على الإسلام والسعودية بوقاحة لم ار لها نظيرا إلا ما يحصل في إعلام السيسي الحالي.
وذلك ما جعلني أكتب فيه ما كتبته من ماليـزيـا ونشر في القدس (2005) لما قدم محاضراته التافهة في الجزيرة.
فقد كانت أكاذيب تنوم العرب وتثبط عزمهم وتمجد إيران وتحيي الحرب الأهلية العربية الإسلامية.
ولما حصلت ثورة الربيع كان أول المحرضين عليها واصبح المنظر للانقلاب والمعادي لتركيا التي تمثل فجرا جديدا يمكن الأمة من استئناف دورها. ولو نجحوا في انقلاب النظام الموازي في تركيا ولم يأت الملك الصالح لكان الحسم قد تم لصالح أعداء الامة.
التزامن بين الربيع العربي والتوجه التركي البين للتعاون مع ثورة العرب وعودة الوعي للسعودية التي مولت الثورة المضادة في البداية ثم أراد مكر الله أن تتعجل إيران غزوها فكان اليمن القادح لفطنة الملك الصالح وحكمته.
ذلك هو المشروع المربك.
هذا المشروع المضاعف عربي تركي.
وهو مشروع يوحد بين الشعبين أمل المستقبل وخطر الحاضر.
فالخطر يهدد كيان دولهما ووحدة شعوبهما.
وكلتا الوحدتين تمثل جدار الصد لحماية الثورة الأصيلة والحديثة في آن.
لذلك فهو مشروع مضاعف لنهضة عربية تركية يربك المشروعات الامبراطورية الثلاثة التي بدأت تفقد زخمها بفضل ما له من عنفوان مادي وروحي فضلا عن ولاء الشعوب له بإيمان متين.
وهو مربك كذلك لأمريكا التي عوضت القوى الأوروبية التي كانت تتاقسم المنطقة وللقطب الذي كان يقاسمها بعضها ولم يبق منه إلا كاريكاتوره رغم أوهام بوتين المسكين الذي لا يدري أن روسيا بلد متخلف رغم خردة السوفيات.
نمر الآن إلى استعداد أمريكا للنظام العالمي الجديد ومحاولة حماية منزلتها كقوة أولى فيه:
فهذا الهدف هو الذي سيحدد خيارات أمريكا في الإقليم لأنها لن تضطر للمعاملة الندية إلا بعد فشل فرض إرادتها.
أمريكا يعلم استراتيجيوها أنها لا يمكن أن تبقى أولى من دوننا إما عنوة وهذا بات مستحيل أو بالتحالف معنا نديا.
وهي الآن في مفترق الطرق.
لما كان العرب نياما -غالب الأنظمة ما تزال نائمة- كانت أمريكا تتصور أن الفوضى الخلاقة ستقضي على انتقال قوة العرب من القوة إلى الفعل وكانت الخطة منع هذه النقلة بكل الطرق الممكنة.
ولما حدثت طفرة الثورة تصورت أمريكا أنها سحابة صيف يمكن أن توظف النخبة البديلة مثل النخبة السابقة.
ولما فشلت شجعت الانقلاب والتعفين.
وها قد فشل الانقلاب والتعفين أو هما على أبواب الفشل بسبب أمرين:
- صمود الشباب وشجاعتهم في كل الميادين
- ثم عودة الوعي للسعودية وبطولة رجالات تركيا.
وينبغي أن نعترف بفضل رجلين سيسجل التاريخ أنهما كانا رائدين في مساندة الثورة تخليقا لها قبل وجودها بالإعلام ودعما لها بعده بالدبلوماسية:
أميرا قطر الأب والابن رغم التهديد والابتزاز من القريب والبعيد.
لكن وزن السعودية المادي (أول قوة عربية) ورمزيا (الحرمان) مع دور تركيا وخاصة ولاء الشعوب للمشروع الاستئنافي فرضا على أمريكا لعبة أخرى لم يعد فيها إمكان للاستغباء بعد الموقف من الثورة وتأييد الانقلاب (في مصر) والتعفين (في سوريا).
تبين أن الحاجة إلى الإقليم لا يمكن الحصول عليها عنوة ولا بد من تفاوض مع أصحابها الذين لم يعودوا نياما بل أخذوا مسؤولياتهم التاريخية
وأعتقد أن آخر ورقة ومهرب لأمريكا قد احترقت:
كانوا يتصورون أن بوتين بحمقه يمكن أن يحقق ما لا يستطيعون القيام به دون خسران الإقليم.
يريدون تصفية الثورة دون اظهار العداوة.
فبعد هزيمة إيران ومليشياتها في الشام وحتى في العراق وبعد فشل الانقلاب الذي يحتضر في مصر لم يبق لهم إلا غباء بوتين لعل وعسى.
لكنه فشل وسيخرج أذل من خامنائي ومليشياته.
المنتظر الآن إذا صمد الصف العربي الرسمي -السعودية وقطر- أن يضطر الأمريكي إلى تحديد خياره:
اي الصفين يحالف
- إيران وروسيا
- أم العرب وتركيا
ذلك أنه يئس من إخضاع سنة الإقليم إذ خسر كل حروبه فيها.
وليس لأمريكا أي خيار:
- فإذا حالفت إيران وروسيا ستفقد ما تطلب أي ما يحتاجه بقاؤها قوة أولى في العالم (إمكانات العرب والأتراك في الإقليم).
- وإذا حالفت العرب وتركيا فستعزز صفها بالتعاون مع أصحاب هذه الإمكانات التي تكون قد عجزت عن أخذها عنوة.
ولما كان الصف الإيراني الروسي مهزوما والصف العربي التركي في غنى عن المساعدة بعد أن أدرك أن اعتماده على غيره فقدان للسيادة فأمريكا مضطرة للانحياز للصف الرابح.
سيضطر قادة أمريكا للقول:
ما عجزنا عن تحقيق كله بالقوة فلنحقق ما يمكن منه بالسياسة ولنصل إلى حلول وسطى مع العرب والأتراك (غالبية السنة) سادة الإقليم.
وحينها سيتحدد الصفان الخاسران في هذه المعادلة الجديدة:
الأقليات وأصحاب مشروعات الامبراطوريات الثلاث أي الصفوي والصهيوني والبعثي.
ولما كانت خسارة الأقليات واصحاب مشروعات الامبراطوريات الثلاثة ستكون كبيرة وكبيرة جدا فلا بد من فحصها فحصا جديا لفهم ما قد ينتج عنها من معيقات لبناء القوة العربية السنية.
لذلك فسنتابع قضية مخرجات الفوضى الخلاقة التي هي موضوع هذه المحاولة في فصل ثان يبحث مآل الأقليات والمشروعات الامبراطورية الثلاثة.
ولنحدد علاقة هذين الوجهين بجغرافية الإقليم وتاريخه.
فمشروعات الإمبراطوريات الثلاثة علتها عودة مرضية لما قبل الإسلام توهما بنهايته:
البعثي ما بين النهريني واليهودي والفارسي كلهم يتصورون الإسلام خرج من التاريخ أو ينبغي أخراجه منه.
والاقليات علة دورها العميل عدم عرفانـها بالجميل لسياسة المسلمين المنفتحة والتي لم تعاملهم كما عامل الغرب الحديث أقلياته التي أفناها أو هجرها.
لذلك فسلوكها كان انتحاريا.
وما يفسر الظاهرة هو أن الأقليات بجميع أصنافها الدينية من الإسلام أو من الأديان الأخرى والعرقية والثقافية (العلمانية والليبرالية طوائف ثقافية) عادت الأغلبية وحالفت المستعمر.
لذلك فقد كان المآل أحد أمرين:
- إن كانت كبيرة فالانفصال
- وإن كانت صغيرة فالهجرة إلى الغرب بعد جلاء جيوشه.
حدث ذلك في العراق وسيتكرر ذلك في غيره.
وهذا لعمري -حتى وإن كان فيه تراجع عن خصائص سياسة الإسلام- فإنه من هدايا الغرب للعرب حتى يتحقق التجانس في الإقليم دون أن نطلبه نحن.
والأقليات: الدينية بصنفيها والعرقية والثقافية (العلمانيون والليبراليون أقلية ثقافية) هي ألبت الأغلبية عليها إذ تريد حكمها بحلف مع العدو الذي ستضطر للجلاء معه إن تفضل عليها فقبلها.
أما أصحاب مشروعات الامبراطوريات الفارسية والصهيونية والبعثية فلن يكون لهم إلا دور ثانوي لما تعود السيادة لأصحابها أي الأغلبية السنية التي هي المستهدفة في كل هذه الحروب.
ودور الأقليات التي هي جوهر المليشيات الخمس الحالية (الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية والقومية الفاشية) معلوم للجميع في ما حدث من قطيعة بين العرب والأتراك بدعوى الثورة على الخلافة المستبدة.
ولم يكن ذلك مقصورا على دورها بل إن حمى الفاشية القومية التي انتقلت من أوروبا إلى تركيا الفتاة ومصر الفتاة فانتهزتها أقليات الشام لشرعنة الخيانة حتى صار الجميع فتات الفتات.
واوروبا الآن تحررت من القومية الفاشية وتجاوزت الدولة الوطنية حصرا فيها لتتكامل حماية ورعاية رغم تعدد ثقافاتها ولغاتها وما بينها من حروب لا تحصى ولا تعد.
أما العرب فلا يكفيهم القطيعة مع الأتراك ترضية للاقليات المعادية ليس للاتراك فحسب بل للإسلام الذي جعلوا العروبة حربا لم يخرجوا من القرن التاسع عشر وإيديولوجياته المقيتة.
وضع الإقليم وتحالف الفاشيتين الصفوية والصهيونية تفرض عليهم حتى لا يتفتتوا أكثر مما هم مفتتين أن يستعيدوا شرط القوة المادية بالتحرر من الجغرافيا والقوة الروحية بالتحرر من التاريخ الذين فرضهما الانحطاط والاستعمار وعملاؤه.
لذلك فيبنغي البحث خلال الكلام في الاقليات والسعيين الإمبراطوريين الفارسي والإسرائيلي في شروط التكامل العربي ثم الحلف مع الأتراك.
ولنختم هذا القسم بالقول إن فرصة الاستئناف متوفرة وجوديا وخلقيا:
فنحن في رهان البقاء.
وإذا فشلت الثورة استعبدتنا الصفوية والصهيونية لتعيدنا إلى ذلة الجاهلية وتفقدنا عزة الإسلام.
ولن ينجو من ذلك حتى من هم منا الآن خدم لهما: المليشيات الخمس جنود التبعية بالقلم والسيف يخونون أوطانهم ويحاربون من أجل فارس وصهيون دون عقل أو عيون.
وحتى بشار والسيسي وصالح وحفتر ومن سبقهم قبل الثورة ودجالوهم أمثال هيكل والنخب العميلة سيكونوا حينها كلاب على موائد إسرائيل وإيران.
لذلك كله آليت على نفسي الا أتوقف عن تحليل ما يجري بالأدوات المنطقية التي تتحرر من الخلط بين مجرد الكلام على الممكن اللامحدد (مصدر كل التخريف الإعلامي) والممكن المحدد بطبائع الأشياء.
ولا يعنيني الإعلام العربي القانع بالغث لأن جله لا يتجاوز المظاهر والكاريكاتور.
حصيلة الفوضى الخلاقة
– القسم الثاني –
أبو يعرب المرزوقي
تونس في 21 . 02 . 1437 – 04 . 12 . 2015
نستأنف الكلام على حصيلة الفوضى الخلاقة مقدمين عليه تعريفا سريعا للفوضى الخلاقة التي يتصور الكثير أنها بدأت لما أعلنت عنها جونداليزا رايس بعيد حرب العراق.
إنها ظاهرة ملازمة لكل تغيير في النظام السياسي العالمي شرطا في تثبيت النظام الاستعماري.
فإذا كان القصد بالفوضى الخلاقة تهديم نظام قائم لوضع نظام بديل محله فالفوضى الخلاقة متقدمة على ما ولي سقوط الاستعمار الأوروبي وتعويضه بالأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.
-
الفوضى الخلاقة التي اعتمدها الاستعمار الأوروبي لثلاثة قرون إلى نهاية الحرب العالمية الثانية والأمريكي منذئذ كلتاهما مضاعفة كالتالي
فوضى الاستعمار الأوروبية بدأت بالقضم المحاصر لدار الإسلام من خلال الإحاطة بقلب دار الإسلام منذ اكتشاف أمريكا (نهاية الخامس عشر) وراس الرجاء الصالح واستعمار أطرافها وخاصة في جنوب شرق آسيا والبحر والخليج العربيين وفي افريقيا ما دون الصحراء الكبرى. -
ولما اكتملت هذه المرحلة واستعمر كل ما لم يعد بوسع النواة حمايته من الوطن العربي ضرب القلب الموحد (الخلافة) وتحقق سايكس بيكو وإسرائيل.
ونهاية سايكس بيكو شبه حاصلة وهي بداية نهاية إسرائيل بمجرد هزيمة أداتي التهديم للقوة السنية كما نبين: إيران ومليشياتها من الأقليات ومن خونة الأغلبية السنية.
تلك هي حصيلة فوضى الاستعمار الغربي بتقاسم امبراطورياته لدار الإسلام:
فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وهولاندة وبلجيكا.
ولهذه الحصيلة مرحلتان بينتان لمن يعمق التحليل.
لكن الحرب الأولى أدت إلى نتيجتين أنهتا هذا النظام:
-
فالحرب الأولى صدعت أوروبا وابرزت القوتين اللتين ستعوضانها وأنهت الخلافة العثمانية. ومنها ورثنا الخريطة التي تصدعت حاليا ولم يعد لها وجود إلا على الورق.
-
والحرب الثانية أنهت الامبراطوريات الأوروبية كلها بل وأصبحت أوروبا مستعمرة أمريكية سوفياتية وتقاسم دارالإسلام توابع القطبين بدول صورية حتى وإن كانت العنتريات تتكلم على عدم الانحياز.
وتلك هي بداية الفوضى الخلاقة الامريكية:
-
في مرحلة أولى كان التنافس على تقاسم دار الإسلام مع السوفيات وامتدت إلى أن بلغت ذروتها بسقوط القطب السوفياتي.
فاستفردت أمريكا بالعرب والعالم. -
عندئذ بدأت المرحلة الحالية التي كان رمزها حرب العراق وافغانستان وعجز أمريكا التي هزمتها السنة في الحالتين فسعت إلى توظيف ذراعيها الإيراني والإسرائيلي للمهمة.
ونحن الآن في هذه المرحلة.
ما يعنينا اليوم هو الفوضى الخلاقة الأمريكية بمرحلتيها:
فهي لم تعد مكتفية بتوابعها من الأنظمة العربية بل ضمت إليهم كل يتامى للسوفيات حكما ومعارضة:
ولعل أبرز رمز لهذا الضم أن كل اليسار العربي صار ليبراليا وانتقل من الكلام باسم الديموقراطية الشعبية إلى مدح الديموقراطية البرجوازية بشرط أن تكون موزية حتى يحكم هو لا من يريده الشعب.
فتم الضم وبات بالوسع تحقيق مسح النظام القديم والسعي لإعادة البناء. وله هدفان:
-
موجب لإسرائيل في الغاية
-
وسالب لإيران التي تستعمل بلا وعي من قادتها حصان طروادة في الإقليم لإضعاف السنة وتمكين اسرائيل.
ومعنى ذلك أن إيران التي يظن قادتها أنهم أذكياء ودهاة هم في الحقيقة أغبياء لمجرد أنهم يتصورون غيرهم غبيا ويطلبون المستحيل: هزيمة السنة.
إنما هم لعبة في خطة تمكين إسرائيل من تحقيق إمبراطوريتها بإيهام إيران بنفس الهدف.
ومع ذلك فأمريكا تهادن حزب الله بل وتتركه يحكم لبنان فعليا وتحميه بالسماح له بالمشاركة في حكومة فتضفي عليه غطاء شرعيا دوليا كما تفعل الآن مع الحشد الشعبي في العراق.
فأمريكا وإسرائيل يعلمان أن العقبة ليست إيران بل غالبية أهل الإقليم أي السنة العرب وأن مطامع إيران يمكن أن توظف لهذا الغرض أداة تهديم.
ومن لم يفهم الأمر هذا الفهم فعليه أن يفسر لنا سكوت الغرب عن كل إرهاب إيران وعلمهم بدورها في تشويه الإسلام السني لحلفها مع القاعدة مثلا :
فأولى الضربات الموجعة لأمريكا كانت في لبنان.
ورافض هذا التحليل عليه أن يفسر لم تقبل أمريكا حكم إيران للعراق وسوريا لو لم يكن الهدف ما يحصل الآن أي استعمال إيران آلة تهديم التي تتهدم خلال هذا الاستعمال ظنا أنها ذات دهاء سيمكنها من استرداد إمبراطوريتها.
فالمعلوم أن إيران لن تخرج إلا منهكة حتى لو انتصرت.
وهي لن تنتصر لأنها بعد قد هزمت وتلك علة لجوئها إلى جنون بوتين.
وإذن فهي تكون قد هدمت وتهدمت.
وذلك ما لا تستطيع إسرائيل تحقيقه بمفردها.
والآن نصل إلى الكلام على حصيلة الفوضى الخلاقة الأمريكية الإسرائيلية في مرحلتها الثانية أي المرحلة الحالية لنحدد أحصنة طروادة فيها ومكر الله الذي يمكننا من فرصة السعي الجدي للاستئناف.
مكر الله هو الذي يفهمنا كل ما يجري حاليا إذا حاولنا تأويل استراتيجية قلب المفعول فتصبح الفوضى الخلاقة لصالح العرب بدلا من كونها ضدهم إذا هم فهموا أن التشبث بالقطريات دليل عدم فهم العصر وفهموا حتمية العمل على تحقيق شروط السيادة.
يقولون إن إمريكا وإسرائيل يريدان تفتيت المفتت بالفوضى الخلاقة حتى يكون الجميع مثل إسرائيل دولة طائفية.
وهذا سخيف لعلتين بينتين حقا.
والسخف من مميزات التحليلات البهلوانية والصبيانية لمعلقي التلفزات العربية.
-
أولا إسرائيل تريد أن تكون امبراطورية ولا تريد دويلات من جنسها حولها أو حتى فيها بل تريد القضاء على العدو الوحيد الذي يخيفها: إمكانية أن تصحو السنة فتحقق شروط القدرة.
-
وثانيا لو كانت تريد إمبراطورية متعددة الأعراق والطوائف لما احتاجت لفوضى ولا لخلق لأن ذلك هو الموجود حاليا إذ الجميع خاضع لها ولأمريكا : من في الإقليم يمكن بحق أن يدعي أنه ذو سيادة فعلية؟
ذلك أنه من الغفلة أن يصدق أحد أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بقي أحد في الإقليم ذا سيادة غير عنتريات القدافي ونجاد أو زمارة الملالي.
فمن منا لم يعجب من لا مبالاة الغرب بنباح هؤلاء الثلاثة رمزا لعنتريات الاستهلاك المحلي.
الفوضى الخلاقة تسعى إلى ما هو أبعد:
تحقيق إمبراطورية يهودية مسيحية بمعنى المسيحية الصهيونية التي من جنس ما حصل سابقا في أمريكا نفسها.
وليس ذلك لسبب ديني -فلا أتصور أن القوة المحركة في أمريكا وإسرائيل تؤمن بخرافات التوراة- بل لأن الإقليم ضروري لبقائهم قوة العالم الأولى بما فيه وبموقعه.
من دون الإقليم لا يمكن لأمريكا وإسرائيل الصمود في نظام العالم الجديد الذي بدأ يرتسم بسبب صعود قوى عملاقة ديموغرافيا واقتصاديا وعسكريا
وإذا صح القيس فإن الإقليم في الكرة الأرضية وصلا بين المحيطين من جنس استراليا لنفس الوصل من الناحية الثانية مع فضل ما فيه ماديا ورمزيا وخاصة الطاقة والقرب من أوروبا وصلته البرية والبحرية والجوية بالمنافسين المحتملين.
لن يسود العالم أحد بوصفه قوة أولى من دون هذين الشرطين:
-
استعمار الوطن العربي
-
واستعمار استراليا
لوصل الدائرة بين المحيطين من الناحيتين مع الثروات الطبيعية:
المرور من الاطلنطي للهادي ذهابا وإيابا من الناحيتين لا يستغني عنهما.
المشكل إذن بين:
كيف يتم القضاء على العرب السنة بوصفهم قوة عملاقة بالقوة أي قابلة لأن تصبح قطبا يهدد إسرائيل وبقاء أمريكا القطب الأول؟
هنا يتبين دور الأداتين:
إيران والأقليات هما حصان طروادة للتهديم الداخلي للإسلام سر قوة العرب والمسلمين في مسرح الصراع العالمي المقبل.
فهما من نفس الحضارة ومن ثم فتوظيف دورهما التهديمي أكثر فاعلية من دور إسرائيل.
وهنا يأتي ما أقصده بالمكر الإلهي الذي سيقلب الفوضى الخلاقة ليجعها لصالح الأمة:
كتبت منذ 2004 في ماليزيا بأن الفوضى الخلاقة هي فرصتنا لقلب حصيلتها:
يريدون التفتيت ونريد التوحيد.
وإذن فكلانا يحتاج إليها.
ونحن أولى بها لتحقيق شروط الاستئناف.
فالتفتيت سيقضي على الجغرافيا الاستعمارية.
والبديل سيحدده التاريخ الذي ما يزال حيا فيمكن إذن استعادة الجغرافيا التي تصور الاستعمار كما وصفنا أنه محاها في القرنين الماضيين ومثله اعتقد القوميون الذين أسسوا دولا قطرية على جغرافية الاستعمار وتاريخ ما قبل الإسلام (البابليين والفراعنة والفينيقيين والقرطاجنيين إلخ…).
فاقصى ما يمكن أن يحصل هو الفرز التالي:
إذا حاولت إيران استعمال التشيع فهي ستؤدي إلى حصول ما نرى حاليا أي يقظة الأغلبية السنية البطيئة.
وحتى التشيع العربي فهو سيفيق خاصة والعنجهية الإيرانية تستفز شباب العراق :
لن تنفعها الجالية الإيرانية التي عادت إليه بعد سقوط بغداد.
لن تستطيع إيران لاسباب موضوعية الانتصار على السنة لأن القوة المادية والروحية ليست لصالحها البتة حتى لو ساعدها الغرب كما نراه يفعل.
مجرد تولية الغرب روسيا بدور المساعد لإيران بعد هزيمتها في الشام دليل على أنه بدأ يفهم حقيقة رجحان القوة السنية ودورها في الإقليم وفي العالم كله ماديا وروحيا.
الغرب لم يجرؤ على الحرب المباشرة على المقاومة السنية (داعش ليست منها بل هي تساعد النظام عليها).
ونفس الأمر بالنسبة إلى الأقليات.
لكنه أعقد لأنها شديدة التنوع.
ولنبدأ أولا بتعريف الأقليات وطبيعة دورها في هذه العلمية التي تستهدف السنة لأن بعض قياداتها قبلت بأن تكون أداة لدى الاستعمار وتجنسوا بجنسيته (مثل غالب يهود المغرب العربي) .
مسألة الأقليات معقدة لأن لنا فيها دورا إذا لم نبدأ به لن نستطيع حل المعضلة التي تطرحها:
فلا يمكن أن ننهى عن خلق ونأتي مثله معهما.
الأغلبيات مطالبة بالكثير من التسامح وهذا من مقومات الإسلام الذي يعتبر التعدد والاختلاف من آيات الله.
عاهة القومية التي تجاوزتها أوروبا لتحقق شروط المناعة حماية ورعاية في عصر العماليق هي التي خلقت في الإقليم النزعات الانفصالية بدافع قومي:
ما يحق للعربي يحق للكردي والأمازيغي إلخ…
وعاهة الوحدانية المذهبية أو الدينية تولد الطائفة بنوعيها في الإقليم وكلتا العاهتين منافية للإسلام:
لاالعرقية ولاالطائفية بل التعددية.
أما الطائفية الثقافية (العلماني والليبرالي) فهي ثمرة الغزو الثقافي لضعاف العقل والروح.
لذلك فينبغي أن ندرك أن الأقليات العرقية والطائفية مثلها مثل الإغلبية السنية فيها من تأثر بمرضي القومية الفاشية وبالطائفية الانعزالية وبصدام الحضارات (العلمانيون والليبراليون يعاملون شعوبهم معاملة المستعمر للأنديجان).
فليس كل المسحيين كجوزاف أبوفضل أو كجدي خليل ولا كل الأكراد كشيوعييهم ولا كل الأمازيع مثل متفرنجيهم كما أن العرب ليسوا كبعثييهم.
وإذن فالأمر لا يتعلق بالأقليات بل بأقليات في الأقليات وفي الأغلبية تستبد بالأمر فتفسد العيش المشترك.
لذلك فإذا وجد مشروع لا يتأسس على القومية ولا على الطائفية ولا على الإيدلوجيا الفاشية للعلمانيين والليبرالين في الإقليم فذلك سيضمن الفاعلية في مستوى التنمية المادية والروحية.
ولأن الجميع يعلم أن الثورة هذا هدفها أي الجمع بين قيم الإسلام وقيم الحداثة الكونيتين يصبح بالوسع خروج الإقليم من توظيف الأقليات ضده بمجرد أن يتخلى عن تمييز الأغلبية عنها بنسبة وحدة الإقليم وتكامله إليها.
ولهذه العلة اقترحت الا نسمي تكامل العرب بالولايات العربية المتحدة -تجنبا للحساسيات القومية لدى الأقليات في الوطن- بل أن نسميها “ولايات الوسط المتحدة” للعلل التالية.
فكل الوحدات التكاملية في العالم تسمى بجغرافيتها وليس بنسبتها إلى عرق دون عرق -الولايات المتحدة الأمريكية-الإتحاد الأوروبي-تجمع الدول الآسيوية-
فلنسم تكاملنا بجغرافيته مع دلالته الدينية:
تجمع الوسط أو “ولايات الوسط المتحدة”.
فنحن فعلا وسط بين القارات القديمة الثلاث -ومهد أساسي بداية كل حضارة الأديان والعلوم-
ونحن بنص القرآن الامة الوسط: فلم نرفض هذا الاسم الذي يحررنا من دلالة لا تسوي بين الجميع؟
إذا قمنا بذلك فسيهمش دور المليشيات الخمس التي توظف منها إيران اثنتين (الباطنية والصليبية) وإسرائيل اثنتين (العلمانية والليبرالية) فينجح المشروع الذي يرجح كفة الاعتدال ويلغي الفوضى وكل ما يترتب عليها.
بعبارة أخرى:
لا يمكن قلب الفوضى الخلاقة على أصحابها من دون جعلها فوضى خلاقة لصالح مشروع إيجابي.
فالموقف الدفاعي وحده لا يكفي لا بد من الموقف الهجومـي الذي يعبر عن إرادة أمة الأحرار طالبي العزة والكرامة.
الهجوم الذي أدعو إليه ليس عدوانيا ولا يهدف إلى الضرر بالغير بل يهدف إلى تمكين الإقليم من بناء ذاته ليكون قطبا يحقق العدل في العالم ويرجع الكرامة لأهل الإقليم الذين لم يعد شبابه بجنسيه يقبل التبعية ويحرم من الطموح للدور الكوني.
ذلك قصدي بالاستئناف.
فهو عينه معنى الرسالة الإسلامية التي تعتبرنا أمة وسطا لنكون شهداء على العالمين ويكون الرسول علينا شهيدا.
ولا يمكن أن نكون كذلك ما ظلننا مستضعفين اشباه دول بلا سيادة للعجز عن الحماية والرعاية الذاتيتين.
لا يمكن الانتصار على مشروعات الإمبراطورية الثلاثة ذات الغطاء الديني -الإيراني والإسرائيلي والبعثي -من دون مشروع أفضل روحيا واقوى ماديا
بعبارة واضحة:
الاستفادة من الفوضى الخلاقة التي قضت على الجغرافيا الحالية يوجب جغرافيا بديل أساسها التاريخ الذي ما يزال حيا ينبض بعنفوان قوي:
ما يحرك الشباب المقاوم بجنسيه هو هذه الحيوية التي لا تعترف بالجغرافيا التي فرضها الاستعمار.
حينها ستضطر أوروبا للتعامل الندي مع “ولايات الوسط المتحدة” فتتعاون ضفتا الأبيض المتوسط لتكون القطب المعدل والعادل في نظام العالم الجديد الذي عما قريب ستتعدد أقطابه ولن يكفي فيه جنون العظمة الأمريكية وبقية من عنتريات العظمة الوهمية لدى بوتين.
ولنقل -وليس بقصد التهديد- إن قيادات الضفة الشمالية من الأبيض المتوسط لا يمكن أن تواصل استغفال شعوبها ببناء أمنها على أمريكا وإسرائيل.
فالحروب تحكمها الجغرافيا وكلانا في مرمى نار الثاني.
ذلك أن مستعمراتها في الضفة الجنوبية لم تعد بالعجز الذي كان لها لما استعمرتها فضلا عن اختلاط الشعوب والثقافات الحاصل خلال الاستعمار:
لا تكاد توجد أسرة ليس لها قريب أوروبي
والعكس بالعكس.
ثم إن لآبائنا دورا في تحرير أوروبا: والدي حارب تحت علم فرنسا في العالمية الأولى وأختي وخالي وابن عمتي قتلوا في العالمية الثانية.
فما كانت أوروبا تتميز به من علم وتقينة لم يعد حكرا عليها.
وقد شاخت ومن ثم فلا طمع في الغلبة مهما واصلت التغالب والأفضل الجنوح إلى السلم.
اجترار الماضي والغزو المتبادل لم يعد مناسبا للعصر.
الصراع الوسيط أو صدام الحضارات الحديث لا يناسب الابيض المتوسط بل لا بد من التكامل بين ضفتيه الشمالية والجنوبية حتى يعم السلم والعدل.
وهما لن يعما من دون هذا التكامل: فالمسافات بينهما ساعة طيران.
عقبة إسرائيل قابلة للحل:
فإن رضي بعضهم بـالاندماج في الإقليم دون فوقية فذلك ليس جديدا لأن كل هجرات اليهود السابقة كانت لدار الإسلام إذ هم لم يجدوا حاميا في نكباتهم السابقة غيرنا.
ويقتضي ذلك عودة اللاجئين الفلسطينين إلى ديارهم مع عودة المهاجرين اليهود مـمن لا يقبل بذلك إلى موطنه الأصلي في الغرب الذي طردهم بسبب عنصريته ووظفهم في استعماره للعرب.
حينئذ سيكون يهود الشرق -لهم حق البقاء لسبق وجودهم دولة إسرائيل-أقلية من الأقليات التي يكون لها ما لنا وعليها ما علينا في الاستئناف خاصة إذا حصل التقارب بين ضفتي المتوسط.
ومزية هذا المشروع أنه قاعدة التواصل الميسر للعلاج والمحسن للصورة ومن ثم الحاد من العداوة مع شعوب الغرب وفي نفس الوقت هو استراتيجية البناء الفعلي لقلب خلق الفوضى لصالحنا.
أما المزايا الداخلية بهذا الحل المستقبلي فهي لا تحصى ولا تعد.
يكفي أنها ستحرر تركيا من الخطرين المهددين لوحدتها أعني المشكل العرقي (الأكراد) والمذهبي (العلويون).
ومثلها العرب.
والأهم من ذلك كله يتخلص العرب والأتراك من عقدة ما حصل بعد الحرب العالمية الأولى:
فالحقد بينهما سببه القومية من الجانبين كلاهما أخطأ عندما تنصل من الأمة ليقلد فكرة القومية العرقية.
فإذا كان الألمان والفرنسيون قد تصالحوا بعد أكثر من خمسة حروب دامية منها اثنتان عالميتان فكيف بالعرب والترك ألا يتصالحا لفائدة الأمة وهم لم يتحاربا وأسهما في مجد نفس الحضارة ؟
والإيرانيون يمكن أن ينضموا إلى وحدة إقليمية شبيهة الوحدة الأوروبية إذا تخلصوا من مرض الصفوية ومن عقدتهم إزاء العرب -احتقار العرب مع تبعية لحضارتهم في آن- ولم يحالفوا الأعداء.
المصدر: مدونة الدكتور أبو يعرب المرزوقي