!حلبجة البوسنة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
مثل مدينة حلبجة الكردية التي قتل فيها ببضع ساعات أو أيام معدودة نحو خمسة آلاف إنسان، فقد احتاج قتل 8 آلاف مواطن مسلم في البوسنة إلى خمسة أيام فقط. وكانت تلك المجزرة التي فاحت رائحتها أسوأ الفظائع التي حصلت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من مرور 20 عاماً على تلك الجريمة التي وقعت في 11 تموز (يوليو) 1995 بعد تخلّي الأمم المتحدة عن مسؤولياتها في الفترة بين 1992 و1995، فإن ما يزيد عن ألف ضحية لم يعثر على جثامينهم أو مايستدلّ عليهم. وكل عام يتم اكتشاف ودفن عدد من الضحايا، وأصبح ذلك تقليداً سنوياً ما بعد المجزرة الكبرى في سربرنيتشا، وفي هذا العام وحده، عثر على آثار 136 ضحية.
إن تلك المجزرة تعتبر الصفحة الأكثر سواداً والأشد عاراً في أوروبا فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، على الرغم من الكثير من التشدّقات، ولو كان الأمر لغير المسلمين، لكانت الدنيا قد أقيمت ولم تقعد، أما إذا كانوا من الغربيين أو اليهود ، فإن ذلك سيكون بمثابة تطهير عرقي وجريمة عنصرية، حتى ولو شملت شخصاً واحداً أو مجموعة من السوّاح، دون الاستهانة بأرواح البشر أياً كانوا، فالجريمة ستبقى جريمة بغض النظر عن عدد ضحاياها. صحيح إن موت إنسان واحد مأساة، ولكن ماذا لو قتل ثمانية آلاف إنسان، ألا يعني ذلك ثمانية آلاف مأساة؟ بل أكثر من ذلك حين يتعلّق الأمر بذوي الضحايا وأقربائهم وأصدقائهم ومجتمعهم. إن موت هذا العدد الكبير من الناس قد لا يعني الطغاة وغلاظ القلوب، فبالنسبة لهم تلك مجرد إحصائية، كما يُنسب إلى ستالين.
وحسبما ورد في القرآن الكريم أن حياة البشر مقدسة ولا يمكن التهاون بها بغير حق في سورة المائدة، الآية رقم 32 :” مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا “، وكما قيل قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر.
مرّت هذه المجزرة الرهيبة حتى الآن، دون عقاب للمجرمين ، لاسيّما لمن أصدر الأوامر ومن أعطى التعليمات، ومن قام بالتنفيذ، خلافاً لكل الشرائع القانونية والإنسانية والدينية، فالقتل خارج القضاء يعتبر جريمة تستحق العقاب، فما بالك إذا كانت جريمة بهذا الحجم، وفقاً للقوانين الدولية، أو للقوانين الداخلية. وعلى الرغم من أن مذبحة المسلمين في سربرنيتشا كانت جريمة للإبادة الجماعية، شملت الرجال والفتيان، وأدت إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين، وقام بتنفيذها الجيش الصربي تحت قيادة الجنرال راتكو ملاديتش، إلاّ أن الأمم المتحدة أخفقت من دمغها باعتبارها جريمة للإبادة الجماعية، وذلك بفعل الفيتو الروسي ضد مشروع قرار قدّمته بريطانيا إلى مجلس الأمن مؤخراً.
إن خدر أو خمول الضمير العالمي إزاء هذه الجريمة يعتبر إهانة للإنسانية جمعاء، فما بالك بعائلات الضحايا، فمثل هذه الجريمة وتهاون المجتمع الدولي وموقف الأمم المتحدة اللاّ مسؤول، يعكس مدى العيوب البنيوية في النظام العالمي الذي بدا بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، على ما فيه من ثغرات وعيوب، أكثر وحشية وأقل عدالة من السابق.
لقد مضى على تلك المذبحة 20 عاماً، لكن مجلس الأمن يفشل حتى الآن من الاعتراف بوجود إبادة جماعية، أفليس هذا استهتاراً بالقيم العالمية، وعدم الشعور بالمسؤولية، إزاء المنظومة الحقوقية والقانونية والدينية والأخلاقية؟ صحيح أن الاعتراف وحده ليس كافياً، لكنه خطوة في طريق السعي لتجريم المرتكبين بتقديمهم إلى العدالة الدولية، خصوصاً بعد إنشاء نظام روما العام 1998 وتأسيس المحكمة الجنائية الدولية التي دخلت حيّز التنفيذ العام 2002، ليس هذا فحسب، بل إن توفير العدالة للضحايا، يتطلّب أيضاً دعماً للناجين، والذين تعرّضوا للعسف والعنف الجنسي، ناهيك عن كشف مصير المفقودين حتى الآن.
وعلى الرغم من وصف محكمتين دوليتين المجزرة بحق مسلمي البوسنة والهرسك، بأنها جرائم إبادة، وكذلك اعتراف البرلمان الأوروبي بحصول جريمة إبادة، نقول على الرغم من ذلك، فإن الفيتو الروسي حال دون اتخاذ قرار، فيما امتنعت الصين وأنغولا ونيجيريا وفينزويلا عن التصويت على مشروع القرار، وبعض هذه البلدان يتناقض موقفها مع ما تعلن عنه، خصوصاً عندما تتبع سياسة انتقائية وازدواجية في المعايير، وتلك إحدى مفارقات السياسة الدولية وغرائبيتها.
ويحاول الصربيون تمييع قضية الاعتراف والاستمرار في الإنكار أو تعويم القضية أو حتى المطالبة بإدانة جميع الجرائم، أي المساواة أحياناً بين الضحية والجلاّد، ومعروف أن الضحايا من المسلمين بلغوا 92% في حين إن ضحايا الصرب 5% أما الكروات فإن نصيبهم كان 3%، في حين أن العالم يشهد على فرادة وفظاعة ما حصل، لاسيّما بإطلاق النار على عزّل، ومدنيين وخارج دائرة النزاع المسلح.
وعلى الرغم من إدانة محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بعض المرتكبين واتهامهم بممارسة جرائم ترتقي للإبادة الجماعية، إلاّ أنها قامت بتبرئة صربيا من المسؤولية المباشرة لتلك المجزرة، وحصرتها بصرب البوسنة، ولكن ذلك لا يعفي مسؤولية الزعيم الصربي رادوفان كراجيتش والجنرال راتكو ملاديتش، الذي كان قائداً للجماعات الصربية المسلحة، المدعومة من صربيا لتنفيذ تلك الجرائم الجماعية، مثلما شاركت مجاميع عسكرية من روسيا واليونان وبلغاريا ورومانيا في تلك المجزرة تحت ذرائع قومية أو دينية، حيث تم رفع أعلام بلدانهم على جماجم الضحايا، حسبما أمر بذلك الجنرال ملاديتش.
وإذا كان طريق العدالة طويلاً ومعقّداً أحياناً، ويخضع لاعتبارات عديدة وتوازن قوى ومصالح، فإن ملفّات القضاء الدولي سجّلت قرارات من جانب محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغسلافيا السابقة في العام 2010 تقضي بإنزال عقوبات غليظة بعدد من المدانين بارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ، وخرق قواعد القانون الدولي المتعلّق بالمدنيين، لاسيّما اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1977، ومع ذلك فإن مثل هذه الإدانات لم تكن منصفة للضحايا بالكامل، الأمر يجعل البوسنيون والمسلمون منهم بشكل خاص، بانتظار تحقيق العدل، مهما طال الزمن.
لا زالت ثقافة الإنكار سائدة بخصوص الكثير من الجرائم الدولية، وباستثناءات محدودة، فإن عدم الاعتراف بالمسؤولية يستمر في مغالطة وتدليس للتاريخ. وإذا ما اعتبرنا اعتذار بلجيكا عن جرائم ارتكبتها ضد الكونغو خلال استعمارها، مسألة تستحق التقدير، فإن الأتراك لا زالوا ينكرون الجرائم ضد الأرمن، والفرنسيون ضد الجزائريين، ولا يعترف الأمريكان بجرائهم بحق سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر، فضلاً عن جرائمهم في الفيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها، ويتنكّر “الإسرائيليون“ للجرائم والحروب والعدوان والاحتلال والإجلاء والاستعمار الاستيطاني والممارسات العنصرية، ضد أهل البلاد الأصليين من العرب والفلسطينيين. ولا زالت الجرائم المرتكبة بحق الكرد في العراق، بما فيها حملة الأنفال الدموية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، وحلبجة واستخدام الأسلحة الكيمياوية المحرّمة دولياً في عدد من مناطق كردستان، مصدر تشكيك، لاسيّما من الشوفينيين والاستعلائيين.
صحيح إن بعض المنصفين الذين يقرّون بالوقائع والفظاعات المرتبكة من قبل حكوماتهم في السابق والحاضر، لكن الغالبية الساحقة لا تزال منحازة بشكل أعمى وتنكر الحقائق الدامغة، وتحاول إيجاد تبريرات أو تفسيرات لنقضها. وقد أراد بعض الناس في بلغراد تقديم تعازيهم لأهالي الضحايا في سربرنيتشا، لكنه تم منعهم، إلاّ أنهم اجتمعوا ليحملوا الشموع والزهور بالمناسبة، وقد اضطرّ رئيس الوزراء الصربي الكسندر فوسيتش، إلى الفرار من مكان إقامة مراسم إحياء الذكرى بعد أن تم رشقة بالحجارة والأحذية.
وكان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قد ترأس وفد بلاده إلى البوسنة لحضور مراسيم تأبين الضحايا وشاركت في الوفد وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأسبق مادلين أولبرايت، مثلما وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسالة بالمناسبة قال فيها: نريد عالماً لا يقتل الأطفال، وخاطب البوسنيين، كونوا على ثقة إن قلوبنا البعيدة عنكم شعرت بالمآسي التي عشتموها في ذاك اليوم.
لعلّ خير ما نختم به هذه المقالة التي حدّدت المسؤولية عن تلك المأساة الإنسانية هو قول أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي أنان العام 2005، في رسالة وجهها بمناسبة إحياء ذكرى الضحايا بمرور 10 سنوات : إن اللوم يقع بالدرجة الأولى على أولئك الذين خططوا ونفذوا المذبحة والذين ساعدوهم ، ولكنه يقع أيضاً على الدول الكبرى والأمم المتحدة، كون الأولى فشلت في اتخاذ إجراءات كافية، والثانية، أي الأمم المتحدة، ارتكبت أخطاء جسيمة قبل وأثناء وقوع المجزرة، لذلك ستبقى مأساة سربرنيتشا نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة إلى الأبد.
مجلة كولان، تموز (يوليو) 2015- الأصل المنشور باللغة الكردية