سـؤال وستـفاليا العـربـي
والخرائط الجديدة ما بعد “داعش“
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
هل سنحتاج إلى “وستفاليا“ لرسم الخرائط الجديدة ما بعد “داعش“ أم ثمّة تحدّيات أخرى لا تقل خطورة عن “داعش“ نفسه؟ سؤال طرحه مايكل اكسورثي وباتريك ميلتون في مقالة لهما بعنوان “وستفاليا لا تصلح للشرق الأوسط”، وذلك في مجلة (فورين أفيرز Foreign Affairs)، (أكتوبر/تشرين الأول 2016)، وإذا كان المقصود بالسؤال الصراع العربي – “الإسرائيلي” وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالجواب سيكون مختلفاً وربما معروفاً، لا سيّما باستمرار سياسة “إسرائيل” العدوانية وانتهاكها لأبسط القوانين الدولية، إضافة إلى الشرعة الكونية لحقوق الإنسان. أما إذا كان الموضوع يتعلق بالداخل العربي والنزاعات الأهلية، فالأمر بحاجة إلى إضاءة عربية على معاهدة وستفاليا، وهي مقاربة مختلفة.
وكانت معاهدة “وستفاليا“ قد اختتمت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا 1618 – 1648، فهل ستستطيع إطفاء الحرائق الدينية والطائفية والإثنية في المنطقة بما فيها من نزاعات وحروب أهلية وتداخلات خارجية؟
أياً كانت الإجابة عن السؤال سلباً أو إيجاباً، فإن المعطيات المتوفرة بين أيدينا تؤكد ارتفاع وتيرة التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب في المنطقة خلال العقد الماضي، ولا سيّما بعد اندلاع موجة ما سمّي بالربيع العربي والفوضى التي أعقبته، خصوصاً بتدهور هيبة الدولة، وبالأخص بعد احتلال “داعش“ للرقة وتمدّده باتجاه العراق، واحتلاله للموصل (ثاني أكبر محافظة عراقية)، إذْ يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة، وقضاء الموصل لوحده يضم مليون وسبعمائة ألف نسمة.
وهكذا فتح “داعش“ مع ارتفاع منسوب الاستقطاب والتداخل الدولي والإقليمي السبيل لرسم خرائط جديدة للمنطقة، الأمر الذي يطرح احتمالين أساسيين:
الاحتمال الأول – هو إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد الانتهاء من طرد “داعش“، واستعادة لحمة الدولة الوطنية في العراق وسوريا وبقية البلدان التي تعاني من الاحتراب الداخلي، مثل ليبيا واليمن، بفتح آفاق لتسوية تاريخية توافقية.
والاحتمال الثاني – هو أن تتمسَّك الأطراف المتصارعة بمواقعها، وأن يعود الغرماء إلى التشدّد أكثر من قبل، وهذا سيعني أن “وستفاليا“ ليست صالحة لمثل هذه التسوية، وأن الخرائط الجديدة سترسم بالدم، وقد سبق لبرنارد لويس أن بشّر بها منذ العام 1979 وبشكل خاص بعد العام 1982، حين وضع خرائط جديدة للمنطقة العربية بتفتيتها إلى نحو 41 كياناً، وذلك على أساس ديني ومذهبي وإثني وغيرها، من خلال دوقيات وإمارات وفيدراليات وكيانات.
تفتيت المنطقة
وكان هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية الأسبق، هو الذي دعا إلى تفتيت المنطقة العربية في العام 1975: علينا إقامة إمارة وراء كل بئر نفط، والمقصود بذلك هو جعل المنطقة العربية بلا هويّة جامعة، وتجزأتها إلى هويّات متناحرة وتقسيمها طولاً وعرضاً، ليصبح الجميع “أقليات“ متنازعة، حينها تكون “إسرائيل” الأقلية المتميّزة تكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً، خصوصاً بدعم من الغرب ومساعدته المستمرة.
ومن الناحية الفعلية فقد ألغى “داعش“ الحدود التي رسمتها معاهدة سايكس – بيكو السرّية التي أبرمتها بريطانيا وفرنسا في العام 1916 بالتعاون مع الإمبراطورية الروسية، والتي كشفتها الثورة البلشفية في العام 1917، والتي كانت تقضي تقسيم “تركة” الرجل المريض “الدولة العثمانية” بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك حين سيطر “داعش” على نحو ثلث الأراضي السورية، إضافة إلى ثلث الأراضي العراقية، وخصوصاً بعد استيلائه على محافظتي صلاح الدين والأنبار (أكبر محافظة عراقية من حيث المساحة)، وأجزاء من محافظتي كركوك (وخصوصاً الحويجة التي لا تزال تحتلها، على الرغم من هزيمته في صلاح الدين والرمادي) وديالى، ووصل تهديده إلى بغداد، والعنوان هو “إقامة الدولة الإسلامية”.
ومنذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014 عمل “داعش“ على إلغاء هويّة المناطق التي احتلّها وفرض عليها نظاماً إسلاموياً بالسيف والإرهاب، خصوصاً بتفسيره المشوّه للإسلام، ناهيك عن موقفه الإقصائي من الأديان والمعتقدات الأخرى، مثل المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، الذين استبيح دمهم وأخذت نساؤهم سبايا، وطولبوا بدفع الجزية أو الدخول بالإسلام، ليس هذا فحسب، بل إنه تعامل بذات القسوة مع الرأي الآخر أياً كان، سواء من هذه الطائفة أو تلك، طالما لا يرتضي أو لا يقر أو لا يمتثل لتعاليمه، كما قام بتدمير الصروح التاريخية والأثرية التي لا تقدّر بثمن من النمرود العظيم إلى مدينة الحضر الخالدة، ومن الجوامع إلى الكنائس ذات القيمة الحضارية.
وإذا كان “داعش“ صائراً إلى زوال، لأنه ضد منطق التاريخ والحياة والتقدم والعصر، فإن ما بعد “داعش“ سوف لا يكون مثل ما قبله إيجاباً أو سلباً، سواء على المستوى الجغرافي أو الديموغرافي أو الإداري أو القانوني أو السياسي، أو من جهة من سيتولى الحكم فيها وفي المناطق التي يتم تحريرها، إضافة إلى الجانب الفكري والعقيدي الشديد الأهمية، فالنصر على “داعش“ يقتضي تجفيف منابعه الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وخصوصاً محاولة استغلاله للدين.
وستكون المسألة لها علاقة بالقوى المشاركة في التحرير والاستحقاقات السياسية التي تريد الحصول عليها؟ يضاف إلى ذلك حصول بعض الاحتكاكات الطائفية والاتهامات المتبادلة، فالحشد الشعبي متهم بانتهاك صارخ وسافر لحقوق الإنسان، وخصوصاً في بعض المناطق التي دخلها مثل صلاح الدين، وهناك تحسّس شعبي وتخوّف عام من نفوذ إيراني متعاظم في هذه المناطق ما بعد “داعش“، خصوصاً حين تم مسك الطريق الذي يربط العراق بسوريا، يقابلها اتهامات أخرى لأهالي المنطقة الذين اضطر بعضهم، وإنْ كان قسم قليل، إلى التعامل مع “داعش“ وتسهيل مهماته أو التواطؤ معه، الأمر الذي قد يقود إلى انتقامات أو انفلاتات وأعمال عنف ما بعد التحرير.
ويضاف إلى هذا المشهد وجود قوات تركية ومطالبات وأطماع حول الموصل ومزاعم بالدفاع عن التركمان وغير ذلك مما يزيد المعقّد تعقيداً، وفوق كل ذلك هناك رغبة كردية في البقاء في المناطق التي يتم تحريرها وإلحاقها بكردستان، وهو ما جرى التعبير عنه لأكثر من مرّة على لسان القادة الكرد، مما أثار ردود فعل وإشكاليات عربية وتركمانية، إضافة إلى المشكلات الطائفية – الدينية (سنة وشيعة) ومسلمين ومسيحيين وإيزيديين وغيرهم.
كما أن الوجود الأمريكي، لا سيّما العسكري أصبح أكثر تأثيراً من خلال أعداد الجنود والمدربين والقواعد العسكرية، إضافة إلى النفوذ السياسي والأمني منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق في نهاية العام 2011، خصوصاً وأن واشنطن تسعى لتقليص نفوذ إيران، وهو ما صرّح به الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي عبّر عن موقفه، بل قراره الذي بإلغاء الاتفاق مع إيران بخصوص الملف النووي، وقد يزيد مثل هذا الموضوع في رسم الخرائط الجديدة، باعتبارها وسيلة من وسائل الهجوم قبل الدفاع، وهي خرائط ستكون مضرّجة بالدم.
احتمالات أخرى
ولعلّ مثل هذه القضايا وقضايا أخرى تتعلق بعموم بلدان المنطقة، ترتبط إلى حدود كبيرة بثلاث سيناريوهات متوقّعة يمكن أن تحكمها، كما تذهب إلى ذلك الدراسات المستقبلية، فالسيناريو الأول يتعلّق باستمرار الحال، أما السيناريو الثاني فيتعلّق بتدهور الحال، مقابل السيناريو الثالث الذي يتحدّد بتحسّن الحال.
إن استمرار الحال سيعني الجمود وعدم التغيير، الأمر الذي سيقود إلى احتمالات أخرى ربما أسوأ مما هي عليه، وإذا كان دوام الحال من المحال كما يقال، أي أنه غير ممكن لفترة دائمة أو طويلة، لأنه سيؤدي إلى التدهور والانحدار، فإن سيناريو تدهور الحال هو الأشد خطورة، حيث تعمل قوى عديدة بإدراك منها أو بعدم إدراك بما يؤدي إلى هذه النتيجة، خصوصاً حين تُغلِّب الثانوي على الأساسي، والتكتيكي على الاستراتيجي والطارىء والظرفي على الثابت والمبدئي، ولعلّ ذلك ما تستغلّه القوى الخارجية الطامعة بالمنطقة، والمستفيدة من هذه الانقسامات.
والتفتيت قد يؤدي إلى الانحلال، فإما أن يكون واقعياً Defacto Fragmentation أو التفتت الرسمي أي الفعلي Dejure Fragmentation، وذلك حين يتم تحويل الدولة إلى “دويلات” متنازعة، تحت عناوين مختلفة “أقاليم” أو فيدراليات أو غيرها، أو عبر الانضمام والإلحاق.
والأمر أصبح مطروحاً على نحو واسع، وقد يتحقّق بالقوة بعد احترابات ونزاعات مسلّحة. وقد يحصل على اعتراف دولي (شامل أو جزئي)، وقد تأخذ الأجزاء المنقسمة باسم الأقاليم أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف إليها شيئاً من اسمها السابق، وسيكون لهذه الدويلة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي (وجنوب السودان أحد الأمثلة).
ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب على النخب الحاكمة في الإقليمي أو الكيانات المتعارضة التخلي عنها.
وهناك من يطرح مستقبل الموصل ما بعد “داعش“ فيقترح أكثر من إقليم، وكذلك أقاليم لصلاح الدين والأنبار، بتخطي فكرة الأقاليم الثلاث السني والشيعي والكردي، التي طرحها جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي منذ العام 2007 ووافق عليها الكونغرس الأمريكي.
أما النوع الآخر من التفتت وغياب الوحدة، فهو الذي يقوم على الانضمام والإلحاق Joining and Annex، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة “القومية” أو “المذهبية” أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما إيران وتركيا يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتّت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي، لا سيّما إذا ضعُف العامل الدولي.
ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، وخصوصاً فيما إذا تم القضاء على “داعش“، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السلطة، وإلى حروب أهلية مصغّرة محلية، وليس بالضرورة أن تكون بين الشيعية السياسية والسنية السياسية، بل داخل السنيّة السياسية ذاتها، وداخل الشيعية السياسية باختلاف جماعاتها، وداخل الإقليم الكردستاني (بين إربيل والسليمانية)، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح. وبقدر ما ينطبق الأمر على العراق، فهو ينطبق على سوريا إلى حد كبير، ويمكن أن تمتد خريطة التفتت إلى ليبيا واليمن، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
وعلى عكس سيناريو استمرار الحال، وسيناريو التفتت هناك سيناريو التوحيد وتحسّن الحال، وهذا يتطلّب توفّر إرادة سياسية ووعي لخطوة ما حصل وما يمكن أن يحصل من تفتيت الدولة الوطنية وضبابية مستقبلها، ناهيك عن تعطّل خطط التنمية والإصلاح.
ولعلّ مثل هذا السيناريو يحتاج إلى مقدمة ضرورية تبدأ بالحوار من دون شروط لتحقيق المصالحة الوطنية والسياسية والمجتمعية لتأخذ شكلها القانوني، على أساس المشاركة والعيش المشترك.
مسؤولية النخب
وهنا تأتي مسؤولية النخب في بلورة المستقبل لمواجهة التحدّيات الجديدة، لأن هناك من سيسعى لاستغلال ما حصل، فيركب الموجة القادمة منتهزاً الفرصة للاستفادة منها وتوظيفها، بما فيها قوى خارجية إقليمية ودولية لا تضمر الخير لدول المنطقة وشعوبها، مثلما حصل خلال موجة ما سمّي بالربيع العربي.
فهل يمكن “لوستفاليا عربية“ أن تنقذ بلادنا من فيروس الإرهاب وطوفان الطائفية ووباء التطرف وتضع البلاد على عتبة المواطنة الفاعلة؟ وهو ما حققته “وستفاليا“ الأوروبية، بإقرار الحريّات الدينية والاعتراف باستقلال الدول وسيادتها ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها وإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية.
وإ