مر عام على طوفان الأقصى، ولا تزال آلة القتل الإسرائيلية تحصد أرواح الفلسطينيين الأبرياء في غزة والضفة، ومؤخرًا في لبنان، وتدمر جميع مظاهر الحياة في غزة، دون رادع من ضمير أو دين، أو من دول عربية وإسلامية، أو مما يسمونه بالمجتمع الدولي.
وعلى الرغم من المصاب الجلل في فلسطين، وسقوط أكثر من 42 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف جريح، ودمار شامل للقطاع، إلا أن السابع من أكتوبر 2023م لم يترك العالم كما كان قبله، فالمتغيرات كثيرة، وهناك مسلمات تحطمت، والمستقبل أصبح مفتوحًا على احتمالات مجهولة.
طوفان الأقصى والصهاينة
طوفان الأقصى كان ضربة موجعة ومزلزلة للكيان الصهيوني بشهادة قادته، وجعل إسرائيل تعيش أيامًا صعبة ومؤلمة على حد وصفهم.
فعلى المستوى الداخلي تركت معركة طوفان الأقصى آثارها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فظهرت انشقاقات وخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية.
والاقتصاد الإسرائيلي تكبد خسائر فادحة تقدر بمليارات الدولارات، وكان آخرها تخفيض تصنيف إسرائيل الائتماني، فقد خفضت وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيفات الائتمانية، تصنيف إسرائيل على المدى الطويل من A+ إلى A، وذلك بعد أيام قليلة من تخفيض وكالة موديز تصنيف تل أبيب الائتماني، وهو ما اعتبرته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، “ضربة قوية” أخرى لاقتصاد البلاد.
ووزارة المالية الإسرائيلية أعلنت أن عجز الميزانية بلغ 8.8 مليارات شيكل (2.34 مليار دولار) نتيجة الحرب على قطاع غزة ولبنان. وارتفع العجز خلال الأشهر الـ12 الماضية حتى سبتمبر إلى 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الصعيد الاجتماعي ارتفعت معدلات الهجرة العكسية من الكيان الصهيوني، وهرب مئات الآلاف من الإسرائيليين خوفًا على حياتهم من مغتصبات غلاف غزة، ومن مغتصبات شمال إسرائيل، وفشلت محاولات إعادتهم مرة أخرى، وأظهر استطلاع للرأي رفض 86% من الإسرائيليين العودة مستوطنات غلاف غزة، وظهرت انشقاقات داخل المجتمع الإسرائيلي، نتيجة عملية الإجلاء الواسعة، ونتيجة ملف الأسرى الذين تجاهلهم نتنياهو ولم يعبأ بمصيرهم.
ومعركة طوفان الأقصى كان لها تأثيرها المباشر على علاقات إسرائيل الدولية، فإسرائيل باتت تعاني من عزلة دولية، وهناك دول قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني ردًا على جرائمهما في قطاع غزة، مثل: بوليفيا وكولومبيا وتشيلي، وهناك دعوات قضائية رفعتها دول لمحكمة العدل الدولية ضد قادة الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة، ومثل مندوب الكيان لأول مرة في تاريخه أمام المحكمة.
ومن حيث التأثيرات العسكرية، فقد حطم طوفان الأقصى أسطورة الجيش الذي يقهر، فقد قهر ذلك الجيش المدجج بأفتك الأسلحة الغربية على يد بضعة آلاف من المقاتلين الحفاة، الذين أوسعوا جنود الاحتلال في السابع من أكتوبر قتلًا وأسرًا، وغنموا منهم سلاحًا، وحطم هؤلاء المجاهدون أسطورة دبابة الميركافا التي تفتخر بها إسرائيل، وفجروها وفجروا كذلك آليات جيش الاحتلال المتوغلة في القطاع، وحولوها إلى خردة بعبوات بدائية محلية الصنع.
والأهم من ذلك كله هو أن طوفان الأقصى وضع وجود وبقاء الكيان الصهيوني في فلسطين على المحك، وأعاد للأذهان أحاديث ونبوءات تتحدث عن قرب زوال ذلك الكيان الغاضب عن أرض فلسطين.
طوفان الأقصى والعرب والمسلمون
طوفان الأقصى بالنسبة للعرب والمسلمين كان فرصة ذهبية لاستعادة الحقوق المسلوبة منذ عقود، ولكنهم أضاعوها ولم يستغلوها أو يبنوا عليها.
وموقف العرب والمسلمين تجاه طوفان الأقصى تميزت بالضعف والهوان والذلة والخذلان، والعجز عن نصرة إخوانهم في فلسطين، ووصل العجز إلى حد عدم القدرة على إغاثة إخوانهم في غزة بالغذاء والدواء!
ولم يكن العجز والخذلان العربي والإسلامي هو سيد الموقف تجاه طوفان الأقصى، فالمطبعون والصهاينة العرب تآمروا على فلسطين وعلى المقاومة من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ولذلك وجهوا اللوم والانتقاد للمقاومة، وساندوا جيش الاحتلال في عدوانه على الفلسطينيين، بل وأمدوا الكيان الصهيوني الغاصب بالسلاح والطاقة والغذاء!
وطوفان الأقصى أظهر أن الشعوب العربية بحاجة إلى جهد وإلى ووقت طويل لكي تفيق من غفلتها، وتدرك حجم المخاطر المحدقة بها، والمصير الذي تُساق نحوه، وأظهر كذلك أنها بحاجة إلى توعية وتثقيف حتى تنضج ويصبح لديها منعة وقدرة على أن تدافع عن نفسها وعن قضاياها المصيرية.
طوفان الأقصى والعالم
أظهر طوفان الأقصى تضامنًا عالميًا غير مسبوق مع القضية الفلسطينية ومع الفلسطينيين في مواجهة آلة القتل والدمار الإسرائيلية، والمظاهرات عمت العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، داعية لوقف الحرب ومطالبة بالحرية لفلسطين، وهناك نشطاء قتلتهم قوات الاحتلال لأنهم يدافعون عن فلسطين.
وفي المقابل تراجع التعاطف مع إسرائيل في الغرب وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، فلم تعد رواية إسرائيل أنها ضحية مستساغة لدى الكثيرين في الغرب، وذلك بعد جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في غزة، وحربها على لبنان.
والكيان الصهيوني مع مرور الوقت سيصبح عبئًا على الغرب الذي صنعه وزرعه في قلب المنطقة العربية لتحقيق أهدافه والمحافظة على مصالحه، والدعم الذي يتلقاه من الغرب لن يستمر طويلًا أمام تململ الشعوب في الدول الغربية من الدعم المادي والمعنوي غير المحدود الذي يقدمه ساستهم للكيان الصهيوني، والذي يستخدم ويوظف في عمليات القتل والإبادة الجماعية.
ما هو واجبنا؟
المعركة مع الكيان الصهيوني لم تتوقف ولن تنتهي، لأن عداوة اليهود للمسلمين متأصلة فيهم، يقول الله عز وجل:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. سورة المائدة: 82.
وواجبنا كعرب ومسلمين هو نصرة إخواننا المستضعفين في غزة، وفي لبنان، وفي كل مكان، وأن ندعمهم بما نستطيع، وأن نعد العدة لمعركة طويلة مع الصهاينة الذين يشكلون خطرًا على العالم بأسره وليس على المسلمين وحدهم، فالصهاينة خطر داهم على الأمن والسلم الدوليين وهم المهدد الأكبر لهما، وخطر على الدين وعلى القيم والأخلاق، وخطر على الاقتصاد العالمي الذي يديرونه وفقًا لمصالحهم.
واستمرار المقاطعة أمر مطلوب، فالمقاطعة لأول مرة تؤتي أكلها، وأنا أعدها شكلًا من أشكال الدعم السلبي (الامتناع)، الذي لا يتطلب جهدًا كبيرًا أو تضحية بأمور مهمة في الحياة، وهي أقل ما يمكن أن نفعله نصرة لإخواننا في فلسطين.
المصدر: مركز ابن غازي للدراسات والأبحاث