الإنسان مركب كيميائي، ولا نعني بذلك أن جسم الإنسان مكون من مواد كيميائية فقط، لأنها أيضًا تتحكم في انفعالاته وهي التي تُشكل سلوكه، وقد كتبت هذا المقال تحت تأثير الدوبامين.
ما هو الدوبامين؟
الدوبامين هرمون مرتبط بالمواد الإدمانية كالميثامفيتامين والكوكايين، وهذه المواد الإدمانية تعمل عند تعاطيها على زيادة معدل الدوبامين في الجسم والدماغ.
ويرتبط هرمون الدوبامين أيضًا بشكل وثيق مع شخصية الفرد، وتشير الأبحاث أن الأشخاص ذوي الشخصية المنفتحة لديهم مستويات دوبامين أعلى من الانطوائيين.
ومن المعتقدات الشائعة أن هرمون السعادة هو الدوبامين، ولكن الصواب هو أنه هرمون المكافأة والتحفيز وتوقع السعادة، وذلك لأنه يحفّز الشخص على القيام بخطوات جريئة ويعطيه شعورًا بالحماس بهدف الحصول على اللذة والوصول للسعادة، ولذلك فعندما نتحدث عن الدوبامين فنحن نتحدث عن الهرمون المسؤول عن شعور توقع المتعة وليس المتعة بذاتها.
والدوبامين هو أيضًا الهرمون المسؤول عن الرغبة والتحفيز، وهنا تكمن المشكلة، فالفرد المدمن بصفة عامة يفقد الرغبة والحافر في فعل الأشياء الأخرى الضرورية التي يحتاجها لكي يبدع وينجح في حياته أو على أقل تقدير يعيش حياته ويمارس أنشطته اليومية بشكل طبيعي، وهو ما يفسر إهمال الكثيرين وبخاصة المرهقين للواجبات، وانشغالهم بالأمور التافهة وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي وقضاء الساعات الطوال عليها.
وظهور شبكة الإنترنت وسهولة الوصول إلى محتواها، أدى إلى الاستهلاك المفرط لكل شيء، فقد فتحت أعين الناس على ملايين المنتجات والخدمات التي تغطي كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، والسبب الرئيس لقضاء مستخدميها للساعات الطويلة على الأجهزة المتصلة بها، هو توقع الحصول على متعة ما من خلال التصفح.
وفئة المدخنين يتوقعون الشعور بالمتعة من خلال تدخين السجائر، فهناك من يتوقع أن السيجارة ستخلصه من التعب والإرهاق، أو ستساعده على التفكير واتخاذ القرارات الصائبة، أو ستنسيه غدر وخيانة من أحب كما يصورون لهم ذلك في الأفلام والمسلسلات، ولكنها على العكس من ذلك تمامًا، ووفقًا لأرقام منظمة الصحة العالمية، يقتل التبغ أكثر من 8 ملايين شخص كل عام، في حين أن أكثر من 7 ملايين من هذه الوفيات ناتجة عن تعاطي التبغ المباشر.
تأثير الدوبامين في أجسامنا
كل استجابة عاطفية أو شعورية لها مكون سلوكي ومكون هرموني، وفي كتابها “أمة الدوبامين” (dopamine nation) تحدثت المؤلفة أنا ليمبك، عن سعي الإنسان وراء المتعة، وعن علاقة الدوبامين بالإدمان، فكلما زاد الدوبامين في مسار المكافأة في الدماغ زادت التجربة إدمانًا، ومن المعلومات التي وردت في الكتاب أن الدماغ يعالج اللذة والألم في نفس المكان.
وأكدت المؤلفة على أن أكبر عوامل خطر الإدمان هي سهولة الوصول للمادة التي تسبب الإدمان (القمار، السجائر والمخدرات، التسوق، الوجبات الجاهزة والمشروبات، الإباحية، الألعاب، الهواتف الذكية، …).
والحل هو ضرورة وضع عوائق تمنع الوصول للمادة التي تسبب الإدمان، ولذلك يصبح المنع أو التقنين هو الحل ولا توجد حلول غيرهما، ولذلك نجد أن هناك عددًا من المحرمات التي جاءت بها الشرائع السماوية، رفقًا بالإنسان ومراعاة لضعفه، يقول الله عز وجل:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة الملك: 14.
وإذا علمنا أن المنع هو السبيل الوحيد لعلاج إدمان المواد والسلوكيات، فسنعلم حينها أن الهدف من المنع ليس الحرمان من الأشياء التي نحبها، فربما يكون الهدف من المنع هو إعطاؤك ما هو أفضل وأنفع لك، وطلب الجنة على سبيل المثال يتطلب الامتناع عن المحرمات والابتعاد عن الشهوات، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ”. أخرجه الترمذي: 2450.
وإحصائيات منظمة الصحة العالمية تُشير إلى أن حوالي 70% من الوفيات العالمية، هي نتيجة عوامل الخطر السلوكية القابلة للتعديل مثل التدخين وقلة النشاط البدني والنظام الغذائي.
عبودية الدوبامين!
أبرز مظاهر العبودية للدوبامين هي الانغماس في أمر ما وإهمال الأمور الأخرى التي تُعد أكثر أهمية في حياة الكثيرين الذين يضيعون الأوقات والواجبات، بحثًا عن أمور يتوقعون منها الحصول على قدر من المتعة.
وهناك ارتباط وثيق بين الإدمان ومستوى الدوبامين في المخ، فتوقع الإنسان للشعور بالمتعة نتيجة ممارسة أمر ما يدفعه لتكرار (إدمان) هذا الأمر حتى يصل إلى مستوى أعلى من الدوبامين، وهنا يأتي توظيف هذا الأمر واستغلاله في ترويج وتسويق المنتجات والخدمات، وفي القصص والدراما وفي الألعاب، فيراعي فيها جميعًا وجود قدر من التشويق والإثارة حتى يستقر في ذهن ووعي المتلقي توقع الشعور المتعة عند اقتناء المنتج أو الحصول على الخدمة.
كيف نتخلص من عبودية الدوبامين؟
عبودية الدوبامين تحرم الإنسان من خير كثير، وتضيع عليه أثمن ما يملك وهو الوقت الذي يمثل عمر الإنسان، ونحن بحاجة للتحرر من هذه العبودية والتخلص منها، ويمكن أن نصل لذلك من خلال عدة أمور منها: صوم الدوبامين، والذي يعني الامتناع التام عن السلوك الإدماني لمدة 30 يوم متواصلة على الأقل، وذلك في حالة الإدمان الشديد على نوع واحد من أنواع الإدمان، والامتناع لمدة يوم واحد عن فعل أي نشاط ممتع وغير مفيد، وذلك في حالة تعدد الملهيات والمشتتات الإدمانية.
ومنها التحكم في مصادر الدوبامين، والبحث عن البدائل الطبيعية لها، وهذا التحكم يبدأ بالندم والاقلاع عن المصادر المحرمة، يقول الله عز وجل:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء: 17.
والمطلوب هو القطع مع مواد الإدمان؛ لأن التدرج لا يفيد في التخلص منها بشكل نهائي، يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة النور: 21.
والتحرر من عبودية الدوبامين يحتاج إلى القليل من التفكر وإعمال العقل في الاختيار ما بين الراحة القريبة المتمثلة في أفعال معينة كالتدخين وشرب الخمر والإباحية، والمشقة الكبيرة اللاحقة والمتمثلة في المشكلات التي يعاني منها الإنسان على الصعيد الشخصي والأسري والمجتمعي، والاختيار ما بين المشقة القريبة المتمثلة في القراءة والاجتهاد في الدراسة وبذل الجهد في العمل وممارسة الهوايات النافعة، والراحة الكبيرة اللاحقة التي يحصل عليها الإنسان حيث الاستقرار النفسي والسعادة الأسرية والتأثير المجتمعي وتحقيق الكثير من النجاحات التي تخفف بل وتمحو الآلام التي مر بها الإنسان.
والتخلص من عبودية الدوبامين، يتحقق بالاعتدال والتوسط والتوازن في الحياة بشكل عام، وهي أمور حرصت عليها الشريعة الإسلامية بل وتميزت بها، لأنها تحمي الإنسان من الوقوع في الإدمان، وتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
المصدر: مدونات الجزيرة