عمى القلوب
محمد خاطر
عمى القلوب أشد خطرًا من عمى الأبصار، لأن عمى القلب يعني الضلالة عن طريق الحق والهدى، ويعني قسوة القلب والغلظة في التعامل مع الناس، والله عز وجل بين في القرآن الكريم أن العمى الحقيقي هو عمى القلوب، يقول الله عز وجل:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج: 46.
وعمى القلوب انتشر في الآونة الأخيرة، وتعددت أشكاله وصوره، وسوف نعرض بعضًا منها لكي يدرك من أصاب العمى قلوبهم خطورة الجرائم التي يرتكبونها بحق أنفسهم وبحق الآخرين.
ومن صور عمى القلوب المنتشرة في عالمنا المعاصر، ظلم وقهر الناس وبخاصة الضعفاء منهم، وإذلالهم والاعتداء على أرواحهم وحرماتهم وممتلكاتهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية ومنها الحق في العيش الكريم، وهذا الأمر يتمثل في قتل عشرات الآلاف من الأبرياء، والتعذيب الوحشي واعتقال الآلاف من الشباب ومن خيرة أبناء الوطن، ومصادرة الأموال ونهب ثروات الأمة.
وظلم الآخرين دليل واضح على عمى القلوب، والله عز وجل توعد من يظلمون الناس بالعذاب الأليم، يقول الله عز وجل:{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. سورة الشورى: 42.
ومن صور عمى القلوب الصمت المطبق على المظالم والرضا بها، وعدم إنكار المنكر البواح الظاهر للعيان، يقول الله عز وجل:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}. سورة هود: 113.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره:”في هذه الآية التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم. وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!!”.
ومن صور عمى القلوب التعالي والتكبر على الناس واعتقاد البعض أنهم أفضل من الآخرين بسبب الجنسية أو القبيلة أو المنصب، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ. قال رجلٌ: إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً. قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ. الكِبرُ بَطرُ الحقِّ وغمطُ النَّاسِ“. صحيح مسلم: 91.
ومن صور عمى القلوب أخذ حقوق الآخرين بأي وسيلة سواء كان بالواسطة أو المحسوبية أو الاستيلاء عليها بدون وجه حق استغلالًا للمنصب والجاه والسلطان. ومن صور عمى القلوب الإهمال في العمل، فالموظف أو العامل المهمل يظلم نفسه لأنه يعرضها لسخط الله بخيانة الأمانة وأكل المال الحرام الذي يحصل عليه دون بذل أي مجهود، والإهمال فيه ظلم للموظفين الآخرين، وفيه ظلم للناس الذين تتعطل مصالحهم.
ومن صور عمى القلوب الوقوف الخاطئ في الأماكن المخصصة لوقوف السيارات وحرمان الآخرين من الوقوف وقضاء مصالحهم، أو الوقوف خلف سيارتهم وحجزها. ومن صور عمى القلوب القيادة برعونة، والسرعات الجنونية على الطرقات وبخاصة الداخلية منها، والتجاوز من اليمين وتعريض حياة الآخرين للخطر وأخذ حقهم في المرور الآمن.
ومن صور عمى القلوب وضع الأحذية بجوار الأماكن المعدة لها أمام المساجد، وذلك الفعل فيه تشويه لصورة بيوت الله في الأرض وهي المساجد، وفيه إيذاء للمصلين، وصورة سلبية تنقل لغير المسلمين، فالمسلم المنضبط داخل المسجد أثناء الصلاة لا بد أن يكون كذلك سواء في وضع حذائه في الأماكن المخصصة لذلك، أو في وضع سيارته في الأماكن المخصصة للوقوف.
ومن صور عمى القلوب تخطي الصفوف يوم الجمعة والجلوس مكان الآخرين والتضييق عليهم وإيذائهم، والأولى بمن يأتي متأخرًا أن يجلس في أقرب مكان، والأحرى به أن يأتي لصلاة الجمعة مبكرًا حتى يحصل على الأجر ولا يؤذي الآخرين، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أنَّ رجلًا دخلَ المسجدَ يومَ الجمعةِ، ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يخطبُ، فجعلَ يتخطَّى النَّاسَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: اجلِس، فقد آذيتَ وآنيتَ”. صحيح ابن ماجه: 923.
والرسول صلى الله عليه وسلم حثنا على التواضع في المجالس ومدحه، فعن أبي واقد الليثي، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بينما هو جالسٌ في المسجدِ والناسُ معَه. إذ أقبل نفرٌ ثلاثةٌ. فأقبل اثنان إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وذهب واحدٌ. قال فوقفا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فأما أحدهما فرأى فُرْجَةً في الحلقةِ فجلس فيها. وأما الآخرُ فجلس خلفهم. وأما الثالثُ فأدبرَ ذاهبًا. فلما فرغ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال:” ألا أُخبركم عن النفرِ الثلاثةِ؟ أما أحدهم فآوَى إلى اللهِ، فآواهُ اللهُ. وأما الآخرُ فاستحيا، فاستحيا اللهُ منهُ. وأما الآخرُ فأعرضَ، فأعرض اللهُ عنهُ”. صحيح مسلم: 2176.
ومن صور عمى القلوب إلقاء المخلفات بجوار حاويات القمامة، وما يسببه ذلك من تشويه للمنظر العام، وتلويث البيئة ونشر الأمراض التي تنتقل عن طريق الحشرات.
ومن صور عمى القلوب مظاهر (الفهلوة) والاستغلال التي نشاهدها في الكثير من الأماكن العامة، ومنها تجاوز الدور في المؤسسات العامة والخاصة ومحاولة الحصول على الخدمة قبل الآخرين.
ومن صور عمى القلوب إيذاء الضعفاء بالقول أو الفعل وأكل حقوقهم بالباطل، ومن الأمثلة على ذلك إهانة العمال والاستهزاء بهم، وتأخير وحجز رواتب العمال أو الاقتطاع منها، أو حرمانهم من مستحقاتهم المالية أو منعهم من الانتقال للعمل لدى الآخرين. يقول الله عز وجل:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة الشورى: 41-42.