عن القوة الناعمة
د. عبد الحسين شعبان
إذا كان تأثير القوة الناعمة في الماضي محدوداً، فقد أصبحت فاعلة ومؤثرة على نحو كبير في عالم اليوم، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجيتل»، بل إن الحروب تبدأ وتنتهي أحياناً بالقوة الناعمة، أي باستخدام وسائل غير عنفية أو غير عسكرية لتحقيق الهدف، وخصوصاً التأثير في سلوك الخصم ليتم تقويضه من الداخل، وهذا يعني حسم المعركة بخصائص قد تفوق أحياناً استخدام القوة الصلبة. وقد كان للقوة الناعمة دور بارز في فترة الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وخصوصاً في ظل توازن الرعب بين المعسكرين، لاسيما بوجود السلاح النووي.
لقد أسهمت القوة الناعمة بفاعلية وبراعة لإحداث تغييرات داخل المنظومة الاشتراكية، التي كانت تبدو منيعة ومحصّنة من الخارج على حد تعبير جون بول سارتر، ولكنها هشة وخاوية من الداخل، وذلك من خلال استخدام وسائل الحرب النفسية المتنوعة التي شملت بشكل خاص الدعاية والإعلام والإنتاج السينمائي والتسلّل الآيديولوجي والهيمنة الثقافية واختراق العدو والحصار الاقتصادي والتأثير النفسي، وغير ذلك من وسائل القوة الناعمة. وباختصار فإن القوة الناعمة تدخل كل مورد لا يُحتسب على القدرات العسكرية أو ضمن القوة الصلبة، حيث تشمل المؤثرات الثقافية والإعلامية والاقتصادية، إضافة إلى العلاقات العامة، التي غالباً ما تستخدم كجسر لإمرار سياسات أو مناهج.
الحرب الصلبة أو الخشنة كما تسمّى ، والمقصود استخدام القدرات العسكرية هي حرب واضحة وصريحة ومعلنة وتستخدم فيها الجيوش والقوات المسلحة، مقابل جيوش وقوات مسلحة للعدو، في مجابهة مباشرة، أو عبر مباغتات واحتلالات وخرق للحدود واحتلال أراض وغير ذلك، لفرض الشروط عليه، ويترافق معها، شحذ الهمم وتصويب الخطر نحو الخارج، ومحاولة حشد قوى الشعب للالتحاق بالجيش والنظام دفاعاً عن الوطن. وقد سبق لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق وليم غلادستون أن قال قبل أكثر من قرن وربع القرن من الزمان: إن الحرب تجعل الشعب يسير خلف حكومته لنحو 18 شهراً على الأقل.
أما في الحرب الناعمة فإن العدو يتخفّى بصورة ناعمة مراوغة وتبدو أحياناً بريئة، بهدف تعميم قيمه والتأثير على العدو بتشويه صورته وإضعاف معنوياته عبر دعاية سوداء أحياناً، وإعلام مضلل، هدفه كسر شوكته ومقاومته، وبالتالي إجباره على التقهقر والتسليم. ومن منّا لا يتذكّر صورة الجندي العراقي الذي ينحني على حذاء الجندي الأمريكي ليقبّله بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت عام 1991.
الصورة بحد ذاتها خبر وقد تُغني عن مئات المقالات والتحليلات، لأنها تترك انطباعاً لدى المشاهد سلباً أو إيجاباً، فمثلاً تركت صورة الصبي محمد الدرّة انطباعاً إيجابياً لدى الرأي العام العالمي في التعاطف مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني، مثلما تركت انطباعاً سلبياً عن انتهاكات «إسرائيل» وممارساتها الوحشية. وصورة عمليات الذبح التي قام بها تنظيم «داعش» الإرهابي أحدثت تأثيراً مرعباً لدى أوساط غير قليلة أثّرت في بداية الأمر على مواجهته، لكنها في الوقت نفسه أفصحت عن حقيقته المتوحشة والإجرامية، الأمر الذي أسهم في انفضاض فئات وجماعات غير قليلة عنه، عبّأت الرأي العام العراقي والعربي والإقليمي والدولي ضده، وهو ما أدّى إلى قيام تحالف دولي ضم 60 دولة، خصوصاً بعد صدور العديد من قرارات مجلس الأمن.
وفي حرب قوات التحالف ضد العراق بعد فرض حصار دولي عليه لمدة قاربت على 13 عاماً، كان لقناة الجزيرة القدح المعلاّ في تصوير مشاهد الحرب النفسية، بعد معارك محدودة في الفاو جنوب العراق ومناطق أخرى، حتى شاهدنا الدبابتين الأمريكيتين اللتين اخترقتا بغداد وعبرتا الجسر ذهاباً وإياباً، وكان ذلك إيذاناً بسقوط بغداد واجتياح قوات التحالف العاصمة بعد معركة المطار الشهيرة.
الإعلام كجزء من القوة الناعمة وبوصفه المجال الحيوي لسيطرة السرديات التي يصنعها الغرب، الذي لديه القدرة على «استعمار الوعي» حسب إدوارد سعيد، فالصورة والشاشة والفيلم والخبر والكلمة والإنترنت وجهاز الموبايل، أصبحت بإمكانها القدرة في السيطرة على الوعي، وقد سعت القوى المتنفّذة في العالم من خلال سردياتها المهيمنة التأثير على العالم، سرديات القوة الناعمة من دون الحاجة إلى أسلحة تقليدية، فهذه السرديات لو أُحسن استخدامها ستكون سلاحاً فعالاً من أسلحة التدمير الشاملة ضد العدو، وهدفها ينصب على كسب العقول، وإفراغ الإنسان في مجتمعات العدو من قيمه وروحانياته، وإدماجه في قيم القوى المتسيّدة، لكي تتحقق غاية الهيمنة على الخصم أو العدو، ومثل هذه القدرة في التأثير، إذا ما استحكمت فإنها تستوطن في العقول، وهو ما يسميه مالك بن نبي «القابلية على الاستعمار»، وكان ابن خلدون هو من قال بنقل قيم الغالب إلى المغلوب، الذي يتبنّاها بحيث تصبح قيمه.
وتُستخدم القوى المتسيّدة والمقصود بذلك القوى الصناعية الكبرى، التكنولوجيا المتطورة في الصناعة الإعلامية التي تعتمد على سعة المعرفة في صناعة الخبر بمستوياته المقبولة من خلال تقديم حقائق هي أقرب إلى الكذب، لكنها مصاغة بشكل يجعلها أقرب إلى الحقائق، وتتم عملية حقن بعض الأكاذيب، بأجزاء من الحقيقة، لكي لا تبدو الأكاذيب فاقعة أو زائفة كلياً، وبشكل ذكي تماماً يتم اجتزاء الحقيقة وتمرير الأفكار والآراء للتأثير على الآخر.
قد يكون هدف القوة الناعمة والحرب النفسية أوضاع الحاضر، مثلما هدفها المستقبل، لكن بعض خصوصياتها تشمل الماضي أيضاً والتراث، وقد استخدمت «إسرائيل» أساليب ملتوية لتشوية تاريخ فلسطين، بزعم الوجود اليهودي فيها قبل العرب، في محاولة تزييف للتراث والممتلكات الثقافية والحضارية، مثلما تستخدم اليوم الشائعة للتأثير على الآخر، سواء كان عدوًا أو حتى صديقاً أو مناصراً، وتعتبر وسائل القوة الناعمة، جزءاً من الحرب الوقائية للدفاع أو الحرب الاستباقية بالهجوم، ولكن بوسائل غامضة وملتبسة، مثلما تستخدم «داعش» اليوم وسائل القوة الناعمة مرادفة للإرهاب الوحشي المنفلت من عقاله، بل إنها تتغذّى على ترويع الناس من خلال عمليات الذبح التي قامت بها والصورة البصرية التي نقلها التلفزيون في خطاب أبو بكر البغدادي في الجامع الكبير في الموصل بعد احتلالها في 10 يونيو/حزيران عام 2014، ثم الجريمة المروّعة والمعروفة باسم «مذبحة سبايكر» في كلية القوة الجوية في تكريت، إضافة إلى محاولة اغتيال الحضارة واجتثاث التاريخ بهدم متحف الموصل وتدمير النمرود العظيم وتجريف مدينة الحضر.
حاولت تحليل خطاب وزير إعلام «داعش» المدعو أحمد أبو سمرة والمسؤول في التنظيم أبو مسيّرة العراقي عن الحرب ضد العدو قوله: «إنها حرب ضد العالم الكافر، غرباً من أمريكا وشرقاً حتى اليابان، وما بينهما من طغاة، نحن قادمون، إنّا نحب الموت، ربيعكم كذبة… ستصلكم رسائلنا أينما كنتم، نملك ما لم يملكه غيرنا… مكافأتك حين تنضم إلينا هي الشهادة». بهذا المعنى يمكن استكمال الإرهاب بالعمل الإعلامي وبوسائل القوة الناعمة، وقد يكون الإعلامي شريك الإرهابي، وكلاهما يسعى وراء الآخر، فهذا هو المجال الحيوي لاستخدام القوة الناعمة، وأحياناً يقوم الإعلامي غير المهني بنشر ما يفيد الإرهابي على نحو ساذج، خصوصاً إذا كان يريد السبق والتميّز في نشر الخبر.
ولتحقيق معادلات القوة الناعمة نشطت واشنطن خلال أزمة خليج الخنازير 1961 مع الاتحاد السوفييتي بخصوص كوبا وما بعدها، باستخدام وسائل قديمة ومستحدثة لحشد أوسع قدر من وسائل الحرب النفسية والدعاية السوداء والتأثير الآيديولوجي، لتسير على نحو متوازي مع الاستعدادات الحربية والقوة الصلبة أو الخشنة، وذلك من خلال ما سمّي ب «تروست الأدمغة» (مجمّع العقول) الذي كان له دور متميّز منذ عهد الرئيس كينيدي، حيث استقطب العقول والكفاءات من المتفوقين الأكاديميين ليعملوا بمعيّة صاحب القرار، وقد عمل في هذا «الجهاز» المختص بالصراع الآيديولوجي كل من كيسنجر وبريجنسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وغيرها.
وكان غراهام فولر من «مؤسسة راند»الأمريكية قد كتب بعد تحرير الكويت وتدمير العراق (العام 1991) تقريراً بعنوان: هل سيبقى العراق موحّداً العام 2002؟ وعاد في عام 2002 وكتب «العام الأخير لصدام حسين» ولم تكن تلك الأطروحات والتصوّرات نبوءات للدبلوماسي ورئيس قسم الأبحاث في الCIA سابقاً، بل هي جزء من حشد القوة الناعمة وأساليب الحرب النفسية، إضافة إلى الحصار ضد العراق والاستعدادات العسكرية.
لقد سيطرت على العالم وإعلامه أربع وكالات أنباء منذ الحرب الباردة خصوصاً بعد صيحة ونستون تشرشل عام 1947 بشأن «الخطر الشيوعي»، وهذه الوكالات التي هيمنت على أكثر من 80% من صناعة الرأي العام، وكان لها الدور المهم في الترويج لوسائل القوة الناعمة للتأثير على الخصم، وصياغة الخبر والصورة والمعلومة للتأثير على وعي العالم.
الحرب الناعمة تشترك مع الحرب النفسية في الوصول إلى الأهداف ذاتها، لكنهما يختلفان باختلاف التكتيكات، فبدلاً من استعراض القوة العسكرية وبثّ الرعب عبر وسائل الإعلام والتهديد بامتلاك قدرات غير معروفة وتطوير أسلحة خاصة، وهي من وسائل الحرب النفسية، فإن القوة الناعمة تستهدف جذب الأنصار، والتأثير على عقولهم وتقديم نماذج ثقافية وسياسية لبث اليأس من واقعهم، وزرع الأمل حتى وإن كان واهماً عن «العالم الحر» وقيمه ورفاهه في بلد الحريات والعسل والحليب، كما يطلق على أمريكا، وهكذا يمكن للقوة الناعمة أن تدخل البيوت وغرف النوم عبر شاشات التلفزيون والإنترنت والهواتف الخليوية وفي ظل العولمة الإعلامية والثقافية والمعلوماتية المفتوحة.
drshaban21@hotmail.com
المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية، الأربعاء 10/6/2015