فلسطين ومعركة الثقافة
د. عبد الحسين شعبان
في مدينة كراكوف التاريخية (بولونيا) اتّخذت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، ومقرّها في باريس، قراراً تاريخياً بتسجيل مدينة الخليل (الفلسطينية)، والتي لا تزال تحت الاحتلال «الإسرائيلي» على لائحة التراث الإنساني العالمي الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته، وذلك يوم 7 يوليو (تموز) 2017.
واتخذ القرار في أعقاب تصويت سرّي أثار جدلاً واسعاً ونقاشاً متواصلاً على المستوى الدولي، ولاسيّما ردود الفعل «الإسرائيلية» الحادّة، وذلك لما للقرار من رمزية تتخطّى الجانب التاريخي على أهميته، وتذهب إلى أبعد من ذلك، لاسيّما التشكيك بمجمل الرواية «الإسرائيلية» بخصوص «أرض الميعاد». ولا شكّ أن الصراع هو قديم وجديد في الآن، بل إنه يتجدّد في كل لحظة، وهو لا يتعلّق بالآثار التاريخية فحسب، بل بمجمل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً «حق تقرير المصير».
وصوّت لصالح القرار 12 دولة عضو في لجنة التراث العالمي، مقابل 3 دول صوّتت ضده، وامتنعت 6 دول عن التصويت. ويشمل ملف التسجيل: البلدة القديمة لمدينة الخليل والحرم الإبراهيمي العتيق. وقد وضع القرار الحرم الإبراهيمي الذي يطلق عليه اليهود «كهف البطاركة» على قائمة المواقع «المهدّدة». ويعتبر من المقدسات الدينية، حيث دفن فيه الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وكانت مدينة الخليل، لعقود سابقة، مسرحاً للصراعات بين المستوطنين اليهود الذين يعيشون في جيوب استيطانية، بينما يحيط بهم سكان المدينة الفلسطينيون البالغ عددهم نحو 200 ألف نسمة.
ويأتي هذا القرار امتداداً لطائفة من القرارات التي تمّ اتخاذها في وقت سابق، منها قراران مهمّان تم اتخاذهما في العام المنصرم، أحدهما اتخذته «اليونسكو» في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 يقضي باعتبار الأماكن المقدسة في القدس من تراث العرب والمسلمين.
وثانيها: قرار اتخذه مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2016 بخصوص وقف الاستيطان «الإسرائيلي» في الأراضي العربية المحتلة، علماً بأن الاستيطان وإجلاء السكان بالإكراه يعتبر «جريمة دولية».
وكانت (الأسكوا) «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» في وقت لاحق قد أصدرت تقريراً يدين «الأبرتايد»، إزاء الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في 15 مارس ( آذار) 2017.
ولعلّ من دلالات قرار اليونيسكو الأخير بخصوص الخليل اعترافه بأنها «مدينة محتلّة»، وبالطبع فلا يحق لسلطة الاحتلال تغيير معالمها أو تركيبتها السكانية أو نظام علاقاتها، طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها: الأول الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، الصادرين عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف (1973-1977). كما أنه يعيد تأكيد حقوق عرب فلسطين في أرضهم وتراثهم وفي حقهم الدولي غير القابل للتصرّف، ونعني به «حق تقرير المصير».
والقرار من زاوية أخرى يعدّ نصراً لكلّ القوى التحررّية وهزيمة للصهيونية وحماتها، ولذلك فإن السفير «الإسرائيلي» كارمل شاما هاكوهين لدى منظمة «اليونسكو» شنّ حملة قاسية ضد المنظمة ذاتها واعتبرها منحازة للفلسطينيين وأن قراراتها مسيّسة، والسبب أنها انتصرت للعدالة وللتاريخ والحقيقة، حين أكدت «فلسطينية» مدينة الخليل وتراثها الثقافي.
وكانت حكومة بنيامين نتنياهو قد فشلت في محاولاتها لمنع صدور القرار، وحاولت تقديم دلائل باطلة، مضمونها أن تراث مدينة الخليل، يهودي بالأصل، وأن المدينة ترتبط باليهود منذ آلاف السنين، وهي مكان ميلاد مملكة داوود، وتعتبر من أقدم المواقع الأثرية اليهودية.
القرار الأممي الذي اتخذته اليونيسكو يعكس درجة التفّهم الدولي لشرعية وعدالة القضية الفلسطينية، حيث أخذ العالم ينظر إليها بعين العطف والتضامن، وباقة القرارات الدولية التي تم اتخاذها مؤخراً تعد تطوراً مهماً وتراكماً إيجابياً أخذت وتيرته تزداد وزخمه يتعاظم منذ أن قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1974 الاعتراف ب «منظمة التحرير الفلسطينية» كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني. ومثل هذا التطوّر الكمّي التدرّجي، لا بدّ أن يتحوّل إلى تغيير نوعي بالتراكم، يمكن للفلسطينيين والعرب توظيفه بالاتجاه الصحيح.
وبقدر ما تعكس قرارات المجتمع الدولي تطوراً إيجابياً للقضية الفلسطينية، فإنها بالقدر نفسه تعكس انحسار وتراجع المشروع «الإسرائيلي» وانكشاف مدى اللّاعدالة واللّاشرعية التي قام عليها، إضافة إلى استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان خلافاً لجميع قرارات الأمم المتحدة. ولعلّ كل نجاح فلسطيني دولي يعني فشلاً «إسرائيلياً»، وتلك فرضية ينبغي اعتمادها باستمرار كمؤشر في الصعود الفلسطيني والهبوط «الإسرائيلي».
النجاح الفلسطيني الجديد هو انتصار للدبلوماسية الثقافية، التي ينبغي إيلاء اهتمام أكبر بها، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل على المستوى العربي، وهناك الكثير من الشواهد والأدلة، على أننا نحتاج إلى مزيد من العمل والمثابرة والمعرفة والدبلوماسية، لاقتحام هذا الميدان المهم الذي تركنا جزءًا كبيراً منه ل «إسرائيل» في العقود السبعة الماضية، وآن الأوان لكي نُحسن التعامل معه لتحقيق اختراقات جديدة للمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وذلك بإضافة أبعاد جديدة إلى حقوقنا العادلة والمشروعة.