قصيدة السعادة
العلامة الدكتور يوسف القرضاوى
أمـل إليـه هفت قلـوب النـاس في الـزمن التـليـد
أمـل.. له غـور القـديـم كـما له سـحر الجـديـد
أمـل.. إليـه سعـى الملوك كـما إليـه رنـا العبيـد
وتزاحمـوا كالهيـم يـدفـعها الصـدى عند الـورود
وتـساءلـوا عنه، ولكن من يجـيـب؟ ومـن يفيـد؟
فمـشـرق.. ومـغـرب وكلاهما يـرجـو البـعيـد
عـادوا وكـل سـؤالهم أيـن السـعـادة والسـعيـد؟
وتخـالفـوا، ولكـل قـوم وجهـة، ولـهم عمـيــد
قالوا: السعادة في السكون وفي الخمـول وفي الخمـود
في العيـش بيـن الأهـل لا عيـش المهاجر والطريـد
في لقمـة… تأتـي إليـك بغيـر ماجـهـد جـهـيـد
في المشي خلف الركب في دعـة وفي خطـو وئـيـد
في أن تـقـول كمـا يقـال فـلا اعتـراض ولا ردود
في أن تـسيـر مع القطيـع وأن تـقـاد ولا تـقـود
في أن تـصيـح لكل وال عاش عـهـدكـم المـجـيـد
في أن تـعيـش كما يراد ولا تـعيـش كمـا تـريـد
قـلت: الحيـاة هي التـحرك لا السكـون ولا الهمـود
وهي التـفاعل والتـطـور لا التـحجـر والجـمـود
وهي الجـهـاد، وهل يجـاهـد من تـعلق بـالقـعود
وهي الشعور بالانـتـصار ولا انـتـصار بلا جـهود
وهي التـلـذذ بالمتـاعـب لا التـلـذذ بـالـرقـود
هي أن تـذود عـن الحـيـاض، وأي حـر لا يـذود؟
هي أن تـحـس بأن كـأس الـذل من مـاء صـديـد
هي أن تـعيش خليـفة في الأرض شأنـك أن تـسود
هي أن تـخط مصيـر نفسك في التـهام وفي النـجود
وتـقول: لا، ولمـلء فـيـك لكـل جـبـار عنـيـد
هـذي الحيـاة وشـأنـها من عـهـد آدم والجــدود
فـإذا ركـنـت إلى السـكـون فـلذ بسكـان اللحـود
أفبـعد ذاك تـظن أن… أخـا الخمـول هو السعيـد؟
قالوا: السعادة في الـغرام الحلو… في خصـر وجيـد
في نرجس العيـن الضحوك وفي الورود على الخـدود
في ليـلة قـمراء ليس بها سـوى الشـهب الشـهود
فيـها التـناجي يـستـطاب كـأنـه وتــر وعـود
قـلـت: الغـرام خـرافـة كبـرى وأحـلام شـرود
هـو فـكـرة بـلهاء أو نـزعـات شيـطان مـريـد
هـو شغـل قـلـب فـارغ فـقـد التـطلع للصعـود
وهو الضنـى، وهو الدمـوع، وشقوة القلـب العميـد
ما أضيـع الأعمار تـقضى في الهيـام، وفي السهـود
في حـب غانـيـة لعـوب في أمـانـي، في وعـود
الحـب حـب الأم والأب والحـلـيـلـة والـولـيـد
حـب المعانـي والحقائـق لا القـدود، ولا النـهـود
حـب يـدوم مـع الـزمـان فلا خـداع ولا كـنـود
فـدع التـي تـهواك حيث تـراك كالزهر النضـيـد
فـإذا تـغيـر دهــرك الـدوار غيـرها الصــدود
وإذا رأت مع غيـرك الـدنـيا مشـت تـحت البنـود
أفـبـعد ذاك تـظن عبـد الغانـيـات هـو السعيـد؟
قـالوا: السعادة فـي النـفوذ وسلطـة الجـاه العتيـد
مـن كالأميـر وكالوزيـر وكالمـديـر وكـالعميــد؟
يرنـو إلـى مـن دونـه فيـسابـقون لمـا يـريـد
وإذا رأى رأيـاً فـذلك وحـده الـرأي الـرشـيــد
كـل يسـارع في هـواه وعـن رضـاه لا يـحـيـد
قلت: اطرحـوا هذي المظاهر واسمعـوا بيت القصيـد
فأخـو النـفـوذ بجاهـه يشقى وإن سحـب البـرود
ماعـاش يحـرص أن يـدوم له النفـوذ ويستـزيـد
متـمـلقـاً مـن فـوقـه طمـع المثـوبـة والمزيـد
ومخـافـة أن يسـقط الكـرسـي يـومـاً أو يـمـيد
متـرضيـاً مـن دونــه بـعطـائـه أو بالـوعـود
يـبـغي رضـا كل الـورى ورضاهمـو شيء بعيـد
فتـراه يـبـسـم للبـغيـض كأنـه الحـب الـودود
وتـراه يـمتـدح الغبـي كأنـه الفـطـن الرشيــد
فاعجب لأزيـاء الملـوك وتـحتـها نـفس العبـيـد
لا يـخدعنـك ثـلـة حـاطـوا بـه مثـل الجـنـود
أبصرهمو -إن شئت- حين يجيء بالـعـزل البـريـد
تـجـد النـفوذ هـوى كما تـهوي وتنـفرط العقـود
ذهـب البـطانة واختفى الـزوار، وانـفض الحشـود
قـد كـان سـوق منـىً وكانـوا هم كتـجار اليـهود
وافــوه يـوم نـفـاقـه وجـفـوه أيـام الـركـود
وإذا رأوه دعــوا: ألا بـعداً كـما بـعـدت ثــمود
أفـبـعد ذاك تـظـن أن أخـاً النـفوذ هـو السعيـد؟
هـذي العقيـدة للسعـيـد هي الأساس هـي العـمود
من عاش يـحملها ويـهتـف باسمـها فهو السعـيـد
هو مؤمـن راسي اليـقيـن كأنـه الـجبـل الوطيـد
غـال، فـلا يـرضى مبيـع النـفس بالثـمن الزهيـد
الله منـه قـد اشتـراهـا وهـو أوفـى بـالعـقـود
عـرف الإلـه، فلم يـعد في الشك يـبديء أو يـعيـد
عـرف المراد من الحيـاة فلم يـعش عيـش الشريـد
وتـفاعـلا: هـو والحيـاة يـفيـدهـا ولـه تـفيـد
المـال والـجـاه الحـلال يـراه أدنـى مـا يـريـد
فـإذا استـفـاد المـال فهـو لخيـر أمتـه رصـيـد
والجـاه عدتـه لنـفع النـاس من بـيـض وســود
فيـعيـش مـن معروفـه فـي مثـل سلطان الرشيـد
ملكـاً تـحيـط بـه القلوب ولا تـحيـط بـه الجنـود
ويـعيـش من إيـمانـه فـي عـالم نـائـي الحـدود
في عرض ما اتـسع الوجـود وطول ما امتـد الخلود
ويـعيـش من أخلاقـه في عـالم الخـيـر المـديـد
حلو الشمائـل في حيـاء الزهـر، في طهـر الوليـد
في رقـة المـاء النـميـر وبهجـة الفجـر الجـديـد
يحيـا بـقلـب من حـريـر لا بـقلـب من حـديـد
يحنـو على العانـي كما يحنـو النـسيـم على الورود
ويـذوب للشاكـي كما قـد ذاب في الشمس الـجليـد
هو فـي الـرخـاء وفـي الشدائـد للجميـع أخ ودود
لا الفـقـر يـذهـله ولا الإثـراء يـنـسيـه العهود
كالنـجم يـبـدو في النـحوس بـدوه عند السـعـود
الـحـب ملء فـؤاده والـحـب كنــز لا يـبـيـد
حـب كضـوء الـشمس يـشرق للمسـود والمسـود
حـب السـعـادة للبـريـة مـن قـريـب أو بـعيـد
لا شـامـت بالمبـتـليـن ولا لذي النـعمى حسـود
لا حـامـل حـقداً، فـما أشقـى الحيـاة مع الحقـود
يـسدي الجميـل لكل حـي من شكـور أو جـحـود
وإذا صنـعت بـه الجـميـل فليـس بالرجـل الكنـود
هذا الرقيـق تـراه عـند الـروع في قـلب الأسـود
متـبـسماً والـدهـر غضبـان يـزمجـر بـالوعيـد
فـإذا رمـاه بالخـطـوب رمـاه بالعــزم الجـليـد
وإذا دعتـه الواجـبـات… فحـمـلتـه بـما يـئـود
وجـدتـه صلب المنـكبـيـن فـلا يـخر ولا يـميـد
هو كالشعـاع المستـقيـم فـلا يـضـل ولا يـحيـد
هو نـاصـع، لا يـختـفي خلف الستـائـر والسدود
فيه ثبـات أخي العقيـدة لا اضطراب أولي الجـحـود
للنــاس أربــاب ولكــن ربـــه رب وحـيـد
لا يـنـحنـي إلا لــه، عند الـركـوع أو السجـود
صلـد الـرجولـة، لا يـرائـي لا يمالـئ لا يـكيـد
لا ينـثنـي عند الـوعود ولا يـليـن لدى الـوعيـد
لا يـلتـوي كالأفـعـوان ولا يـطـأطـىء كالعبـيـد
وإذا أريــد عـلى الدنـيـة قـال: إنـي لا أريــد
هـو مطمئـن لا يبـيـت من المخـاوف في سـهـود
وهو الـعزيـز وإن يـكن بـيـن السلاسل والقيـود
وهو الـغنـي وإن يبـت صفر اليـديـن من الـنقود
أيـديـن للفـقـر امـرؤ أخـلاقـه نـعم الرصيـد؟
أفيـشتـكي عـقم الـزمـان وقلبـه خـصب ولـود؟
آمـالـه تـنـمو على الأحـداث كالـروض الـمجود
ويـمـدها إيـمانـه الـدفـاق كـالـدم في الـوريـد
تـجلو له الغد كالـعروس بـدت تـهادى بين غـيـد
وتـسيـغ في فمـه الجـهاد كمنـهل عـذب الـورود
فيـقوم مـن سـاح اللقـاء إلى لقـاء مـن جـديـد
ويـذوق في كأس العذاب… عذوبـة الصبـر الحميـد
ويـشيـم في وجـه البـلاء مخايـل النـصر الأكيـد
والنـصر مثـل الغيـث يعرف بالصواعق و الرعـود
هـذا لعمـري شـأن ذي الإيـمان أو شـأن السعيـد
لا حـزن لا نـدم عـلى أمــس فأمــس لا يـعود
لا خـوف من غـده فخـوف غـد ظنـون لا تـفيـد
لا حـرص لا طـمع فـداء الحرص كم يـفري الكبود
فلئـن يـعش لهو السعيـد وإن يـمت فهو الشـهيـد
قـل للذي نـشد السـعادة: دونـك النـبـع الفـريـد
إن السعـادة منـك، لا تأتـيـك من خـلف الـحـدود
هي بنـت قلبـك بنـت عقلك ليـس تـشرى بالنـقود
فاسـعد بـذاتـك أو فـدع أمـر السـعادة للسـعيـد