كيف ننهض بالإعلام العلمي؟
يقولون إن الإعلام هو مرآة المجتمع وأن اهتمامات وسائل الإعلام تعكس بقدر كبير أوضاع الأفراد في هذا المجتمع وهذه المقولة لا يمكن التسليم بها على إطلاقها لأن وسائل الإعلام تغفل شرائح كثيرة في المجتمع ولا تتعرض لمعاناتها أو لدورها وتأثيرها في عمليات التنمية والنهوض. وفي المقابل تسلط وسائل الإعلام الأضواء على فئات معينة في المجتمع حتى تجعل من الأفراد المنتمين لهذه الفئة أبطالاً ونجوماً مع أنهم أناس عاديين لا يملكون مواهب حقيقية. ولو حاولنا تطبيق هذه المقولة على الواقع العربي لخرجنا بنتيجة تقول إن المجتمعات العربية أصبحت مجتمعات غارقة في الطرب والرقص ولعب كرة القدم وكل ما يرتبط بهما.
وفي ظل هذا التوجه القاصر والرؤية الأحادية التي تعتمد السطحية كمبدأ في نقل الأخبار والتعامل مع الجماهير وتغليب رغبة قلة من الجماهير على رغبة الأكثرية وتغليب جانب الانتشار والربح على الجوانب التثقيفية التي يمكن أن تصنع تنمية وتحقق نهضة نلاحظ غياب كل ما له علاقة بالعلم الذي يرتقي بالأمم وبالعلماء الذين يصنعون النهضة. فغياب الإعلام العلمي يؤكد عدم وجود اهتمام بالعلم والعلماء في العالم العربي وهو دليل على قصر نظر القائمين على الإعلام لأنهم أهملوا مجالاً إعلامياً على قدر كبير من الأهمية في النهوض بالمجتمعات وهو الإعلام العلمي.
وغياب الإعلام العلمي هو أحد أسباب تخلفنا وهو سبب نقص الوعي الذي نعاني من آثاره السلبية في كل المجالات والجهل والسطحية لدى الجماهير في العالم العربي والشباب بصفة خاصة مرده إلى وسائل الإعلام. فوسائل الإعلام في العصر الحديث هي التي تصنع اهتمامات الجماهير ثم تعكس هذا الاهتمام بشكل مبالغ فيه في كثير من الأحيان وذلك من خلال التغطيات المستمرة التي تقوم بها لنوعية معينة من الأخبار أو لفئة من فئات المجتمع التي أراد القائمون على هذه الوسائل نشرها وإبرازها وتعريف الناس بها وليس ذلك فقط وإنما حثهم بكل الوسائل الممكنة على متابعتها.
ووسائل الإعلام جعلت شرائح كثيرة من المجتمع تهتم بمتابعة أخبار اللاعبين ومتابعة أخبار الفنانين والفنانين وحجم تغطية الأحداث الرياضية والفنية يفوق بمراحل حجم تغطية الأنشطة الأخرى بما فيها الأنشطة السياسية وهو دليل على سطوة وسائل الإعلام وقدرتها على توجيه الجماهير والتحكم في رغباتها.
ولذلك نلحظ الاهتمام المبالغ فيه بالرياضة والفن ولدينا عشرات ومئات المجلات الرياضية والفنية والصحف العربية تحرص على إصدار ملاحق رياضية وفنية يومية بينما لا توجد ملاحق علمية ولم يفكر أحد في إصدارها على الرغم من حاجتنا الماسة لهذه الملاحق العلمية من أجل رفع الوعي لدى الجماهير وإطلاعهم على الجديد في المجالات العلمية المختلفة التي تؤثر تأثيراً مباشراً في حياتهم الخاصة والعامة. وهناك إهمال متعمد للجانب العلمي فالعالم العربي يعاني من ندرة المجلات العلمية فعددها لا يزيد عن 15 مجلة علمية وهذه المجلات على ندرتها فصلية وغير منتظمة في الصدور والكميات التي تطبع منها قليلة وأسعارها مرتفعة مقارنة بأسعار المجلات الأخرى.
ومن بين أكثر من 120 صحيفة تصدر في العالم العربي لا توجد صفحات علمية يومية أو أسبوعية إلا في 20 صحيفة فقط. ولا يوجد في العالم العربي سوى قناة واحدة مخصصة للاخبار والموضوعات العلمية وهي ” قناة المنارة” التي لم تكتمل ساعات بثها حتى الآن فهي ثبت 12 ساعة فقط في حين أن القنوات الهابطة التي تتزايد أعدادها وتتكاثر كالديدان تبث برامجها الهدامة على مدار الساعة!
والنتيجة هي طغيان للفن والرياضة والسياسة والاقتصاد على الساحة الإعلامية وغياب كامل للعلم الذي يديرها جميعاً. ولا شك أن الإعلام العلمي أهم بكثير من الإعلام الفني والرياضي فمن الممكن أن نستغني عنهما ولكننا لا يمكن أن نستغني عن الإعلام العلمي المسؤول عن توعية وتثقيف الجماهير وتوظيف المنجزات العلمية في إدارة جميع شؤون حياتهم، فالإعلام العلمي يتحدث عن الظواهر الكونية والحقائق العلمية التي تقوي علاقة الفرد المسلم بربه وتزيد في إيمانه، ويتحدث عن البيئة المحيطة والمخاطر التي تتعرض لها، ويتحدث عن أضرار بعض الأنماط الاستهلاكية وتأثيرها على الصحة وهي أمور يجب أن يهتم بها الجميع.
وقد يقول قائل ان سبب غياب الإعلام العلمي هو عدم اهتمام الجماهير العربية بالقراءة ومتابعة الأخبار العلمية ولهؤلاء نقول إن هناك ظواهر لا تعكسها الأرقام والاحصائيات بدقة ومنها معدل القراءة عند العرب الذي يقولون إنه لا يتعدى ربع صفحة في العام بينما يقرأ الأوروبي 7 كتب والأمريكي 11 كتاباً وتوزيع الصحف في العالم العربي الذي لا يتعدى 50 صحيفة لكل ألف مواطن وأن نسبة مستخدمي الانترنت لا تتجاوز 5% في العالم العربي بينما تصل إلى 75% في بلدان أخرى من العالم. ويغفل هؤلاء أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها الغالبية العظمى من المواطنين في العالم العربي والنقص الحاد في المكتبات العامة وعدم وجود اتصال بالإنترنت هي التي تحول بين المواطن العربي وبين القراءة وإستخدام الإنترنت بينما الوفرة هي التي تمكن المواطن في أوروبا وأمريكا من شراء الكتب والاشتراك في الإنترنت فائق السرعة.
وحب القراءة موجود لدى الكثيرين في العالم العربي والدليل على ذلك الإقبال الشديد الذي تشهده أماكن بيع الكتب القديمة ومنها سور الأزبكية والنجاح الذي تحققه مهرجانات القراءة للجميع في مصر وغيرها ومعارض الكتب وإقبال الجماهير عليها والرغبة في اقتناء الكتب. والرغبة في استخدام الإنترنت موجودة لدى الكثيرين ولكن كيف يصل المواطن البسيط إلى هذه الشبكة.
اهتمام متأخر كالعادة
في العالم العربي لا توجد كوادر مؤهلة للعمل في الإعلام العلمي فلدينا عشرات ومئات المحررين الرياضيين والفنيين ولا يوجد لدينا محرر علمي بالمعنى الدقيق والصفحات العلمية في الصحف والمجلات تُسند عملية تحريرها إلى أي محرر من الأقسام الأخرى وتكون من باب أداء الواجب وتسويد الصفحات.
وهذه الصفحات لا تهتم إلا بعرض التقنيات الحديثة في المجالات الاستهلاكية كمجال الاتصال والسيارات وكأنها نوع من الدعاية لهذه المنتجات.
والكثير من البرامج العلمية التي تقدم في القنوات التليفزيونية هي نوع من التسلية والترفيه ولا تقدم معلومة علمية رصينة وذلك لا يمنع وجود برامج جادة تحترم عقلية المشاهد وتقدم له الحقائق العلمية بطريقة مبسطة وشيقة ومعظم هذه البرامج غربية تجد فيها من المتعة والإتقان والحرفية ما لا يمكن وصفه فهل نتطلع إلى اليوم الذي نشاهد فيه برامج علمية عربية على نفس هذا المستوى؟!
والاعلام العلمي يجب أن يركز في هذه المرحلة على الجوانب التعليمية والعلمية في التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال وعدم التركيز على الجوانب الترفيهية فمشكلتنا كمستهلكين لهذه التقنيات هو استخدامها في الترفيه إن لم نقل في الإفساد وهو ما ينطبق على استخدامنا الخاطئ للهواتف الجوالة واستخدامنا للإنترنت فقليلون هم من يستخدمونها الاستخدام الصحيح أما الغالبية العظمى فيستخدمونها في نقل وتبادل الصور والمقاطع الإباحية والدردشة والإساءة إلى الآخرين. وكعادتنا لا نهتم بالتخصصات الجديدة في كل المجالات ولا نفيق من ثباتنا العميق إلا بعد أن يقطع الآخرون فيها شوطاً طويلاً ويصعب اللحاق بهم أو حتى مجاراتهم فيما وصلوا إليه.
ومن هذه المجالات مجال الإعلام العلمي الذي طرقنا أبوابه متأخرين جداً وعلى إستحياء مع اننا في أمس الحاجة إليه لخلق وعي بأهمية الثقافة العلمية وأهمية العلم وقدرته على إنتشالنا من التخلف الذي نعيش فيه.
ورغم هذه الحاجة لم يجد الإعلام العلمي أي اهتمام من قبل القائمين على وسائل الإعلام وكأنه مخطط محكم لكي تظل الجماهير في العالم العربي وهي تتخبط في ظلمات الجهل والتخلف وإلا فما هو سر التضحية بالصفحات العلمية لصالح الصفحات الأخرى كالفنية والرياضية وغيرها؟!
وما هو السر في خلو قائمة البرامج في العديد من القنوات التليفزيونية من البرامج العلمية الجادة ومحاربة المسؤولين الأشاوس للبرامج العلمية الهادفة على ندرتها ومن الأمثلة على ذلك منع برنامج “العلم والإيمان” للمرحوم الدكتور مصطفى محمود الذي افتقده المشاهدون في العالم العربي.
الاعلام العلمي والوصول للجماهير
يلعب الإعلام العلمي دور الوسيط بين المنجزات العلمية التي تتم في الجامعات والمراكز البحثية وبين الجماهير التي تستقبل هذه المنجزات وتتأثر بها وتتفاعل معها في الحياة اليومية.
والدور الذي يقوم به الإعلام العلمي هو كسر الحاجز النفسي المصطنع بين الجماهير والعلم، فهناك من أراد بسوء نية أن يبعد الجماهير العربية عن الأمور العلمية بحجة انها صعبة ومعقدة. ولهؤلاء نقول إن تبسيط العلوم هو المدخل الجيد لجذب الجماهير والأطفال على وجه الخصوص نحو حب العلوم وحتى أعقد القضايا العلمية يمكن تبسيطها والكيمياء التي يزعمون انها صعبة وتستعصي على الفهم تصبح سهلة بطريقة العرض المبسطة والدليل على ذلك هو حب الأطفال للعلوم وتعلقهم بها عندما تقدم إليهم بأسلوب شيق ومرح.
وهذا هو الدور الذي يجب أن يقوم به الآباء والأمهات وتقوم به المدارس ووسائل الإعلام المختلفة حتى لا نظلم الأجيال القادمة ونحرمهم من حقهم في الحصول المعلومة العلمية.
وتبسيط العلوم بحاجة إلى اهتمام ودعم من الجميع وأن ترصد المؤسسات التعليمية والعلمية العامة والخاصة جوائز للمبدعين في تبسيط العلوم.
كيف ننهض بالإعلام العلمي؟
بعد استعراض معوقات الإعلام العلمي في العالم العربي حري بنا أن نبحث عن حلول للتغلب على هذ المعوقات والحل يكمن في عدة أمور منها:
أولا: تبني الجهات الثقافية الرسمية لإصدار المجلات العلمية في شتى فروع المعرفة وإصدارها بأسعار رمزية تكون في متناول الجميع وتشجع الشباب على قراءتها والاهتمام بالبرامج العلمية وتخصيص مساحات ثابتة لهذه البرامج والعمل على إطلاق قنوات فضائية تهتم بالعلم والبحث العلمي.
ثانيا: دعوة أساتذة الجامعات والمتخصصين في كل المجالات للمشاركة في تحرير الصفحات العلمية في الصحف والمجلات، والمشاركة في البرامج العلمية على القنوات الفضائية وإنهاء القطيعة بين العلماء والجماهير وخلق نوع من التواصل بينهم والعمل على إيجاد قدوات جديدة في المجتمع تكون بديلاً للقدوات الزائفة التي طغت على الساحة العربية.
ثالثا: فتح أقسام للصحافة العلمية داخل كليات الإعلام وتشجيع الشباب على الانخراط فيها وتأهيلهم للقيام بدور المحرر العلمي في الصحف والمجلات وفي الإذاعة والتليفزيون على أكمل وجه.
رابعا: أن تحرص المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية المختلفة على إصدار مجلات علمية ذات قيمة وصولاً إلى مجلات علمية محكمة دولياً والمشاركة بإعداد وإنتاج برامج علمية تغطي الجديد في مجال تخصصها.
خامساً: أن تقوم الصحف بإصدار ملاحق علمية يومية، وكما تبنت منظمة ” اليونسكو” مشروع “كتاب في جريدة” بالتعاون مع كبريات الصحف العربية يمكن أن تتبنى المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة “الايسيسكو” مشروعاً مماثلاً لنشر “الكتاب العلمي” بنفس الطريقة التي أثبتت نجاحها في نشر الثقافة الأدبية.
سادساً: أن تخصص المجلات الأسبوعية والشهرية أبواباً ثابتة للأخبار العلمية، وأن تهتم الإذاعات والقنوات التليفزيونية بالبرامج العلمية المبسطة التي تستهدف الناشئة وتؤسس لبناء جيل من المهتمين بالعلوم المختلفة.
سابعاً: تنشيط الدور الذي تلعبه رابطة الاعلاميين العلميين العرب والسعي نحو مزيد من التعريف والانتشار والعمل على استقطاب أكبر عدد ممكن من المهتمين بالإعلام العلمي.
وهذه الأمور مجتمعة من شأنها أن تخلق اهتماماً لدى الجماهير بالإعلام العلمي وبالدور الذي يقوم به في التوعية والتثقيف، والنهوض بالمجتمعات.
* المصدر: كتاب الإسلام والنهضة العلمية، محمد إبراهيم خاطر، دار ابن الجوزي، 2012م