ماذا يرفضون اللغة العربية؟!!
محمد خاطر
أن نسمع في دولنا العربية عن أفراد وجهات تطالب بالاهتمام اللغة العربية وتعزيز وجودها وحمايتها فهذا أمر عادي وليس بمستغرب في ظل التراجع الحاد الذي تشهده اللغة العربية لصالح اللغات الأجنبية الأخرى وتعرضها للإقصاء في الحياة العملية أما أن نسمع عن رفض البعض لتوطين اللغة العربية في موطنها الأصلي وفي مناهج المدارس والجامعات العربية فهو أمر خطير بحاجة إلى وقفة جادة لمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذا الرفض فقد أدى التغييب المتعمد للغة الغربية وتفضيل اللغات الأخرى عليها وإحلالها محل اللغة العربية والتمكين للغات الأجنبية في التعليم وفي العمل وفي التواصل بين أفراد المجتمع إلى النظر للغة العربية على أنها عائق أمام التحضر ومسايرة العصر وعلى أنها تراث وماضي ينبغي ألا نعود إليه أو نفكر في العودة إليه.
وعودة اللغة العربية بقرارات رسمية قوبلت باستخفاف من بعض الجهات وقوبلت برفض من قبل بعض الفئات فقد صدرت قرارات في عدد من الدول العربية ُتلزم المؤسسات باستخدام اللغة العربية في المراسلات الحكومية وفي التعليم الجامعي وهذا الرفض نابع بالأساس من الوضع المتدهور الذي وصلت إليه اللغة العربية في الدول العربية واعتقاد البعض الخاطئ بأن اللغة العربية تشكل عائقاً يمنعهم من التواصل مع العلوم والمعارف الحديثة ويحرمهم من الاستفادة منها.
أسباب تراجع اللغة العربية
هناك أسباب كثيرة أدت إلى تراجع اللغة العربية وتخليها قسراً عن مكانتها لصالح اللغات الأخرى الحية منها أو الميتة ومن هذه الأسباب الاستعمار الغربي للدول العربية وإحلال لغات المحتل الغربي محل اللغة العربية في التعليم وفي أنشطة الحياة الأخرى وتأثير هذا الإحلال نجده بوضوح في عدد من دول المغرب العربي.
ومن هذه الأسباب البعد عن القرآن الكريم وهو الحافظ لهذه اللغة من الاندثار ولو كانت هناك لغة في العالم يجب أن يعتز بها أصحابها لكانت اللغة العربية التي حملت الوحي للناس أجمعين يقول الله عز وجل:{ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. سورة الزمر: 28.
ويقول الله عز وجل:{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}. سورة الأحقاف: 12.
ويقول الله عز وجل في وصف القرآن الكريم:{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}. سورة الشعراء: 192-195.
ومن أسباب تراجع اللغة العربية ابتعاد الكثير من العرب عن تاريخهم وزهدهم في التراث الشعري والنثري والعلمي المكتوب باللغة العربية وهذا التراث يعتبر كنزاً ثميناً عند الأمم والشعوب التي تعتز بماضيها وتفخر بتراثها.
ومن الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تراجع اللغة العربية الحرص الشديد لدى الكثير من الآباء والأمهات على أن يتعلم أولادهم في المدارس والجامعات الأجنبية
ويسعد هؤلاء عندما ُيتقن أولادهم إحدى اللغات الأجنبية في الوقت الذي لا يحسنون فيه استخدام لغتهم الأم في التواصل مع المحيطين ويعجزون عن التحدث باللغة العربية وعن حفظ وقراءة قصار السور وبصفة خاصة سورة الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بقراءتها قراءة صحيحة.
والحرص الشديد على التعلم والدراسة في المدارس والجامعات الأجنبية داخل الدول العربية أو خارجها نشأ نتيجة كثرة المغريات وفرص العمل والامتيازات الوظيفية التي يحصل عليها خريجو المدارس والجامعات الأجنبية مقارنة بخريجي المدارس والجامعات العربية فهناك تفضيل واضح لخريجي المدارس والجامعات الأجنبية واتقان اللغة الانجليزية على سبيل المثال أصبح شرطاً أساسياً من شروط التقديم لشغل أي وظيفة في الدول العربية سواء كان ذلك في القطاع الخاص أو العام وبغض النظر عن نوع تلك الوظيفة وفي المقابل لا يشترط اتقان اللغة العربية إلا عند التقديم لشغل بعض الوظائف مثل: المحررين والمذيعين.
ومن المخاطر التي تعرضت لها اللغة العربية في الماضي وتتعرض لها حالياً وعلى نطاق واسع ما يقوم به الشباب في الدول العربية من كتابة الكلمات العربية بالأحرف اللاتينية مستخدمين في ذلك وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة وهذا الفعل فيه تحريف وتشويه للغة العربية وقضاء على الخط العربي والكثيرون يرتكبون هذا الخطأ بدعوى الانفتاح ومسايرة العصر وهو في حقيقة الأمر حرب على اللغة العربية ومسخ لها واستخفاف بها.
ومن العوامل النفسية التي أدت إلى تراجع مكانة اللغة العربية ورفض البعض لاستخدام اللغة العربية في التعليم أو في التواصل مع الآخرين هو حالة الضعف والتخلف التي يعاني منها العرب وتراجع مكانتهم بين الأمم وعدم الاعتزاز باللغة العربية أو بالانتماء للعروبة ففي ندوة عامة شاركت فيها طالبتان عربيتان تدرسان في السنة النهائية بإحدى الكليات الأجنبية المتخصصة في الشؤون السياسية وعندما أعطيت لهما الكلمة بدأت أولالهما بالحديث باللغة الانجليزية فطلب منها أحد الحضور وهو أكاديمي وكاتب كبير التحدث باللغة العربية لأن جمهور الحاضرين من العرب فلم تعره اهتماماً وواصلت حديثها إلى نهايته باللغة الانجليزية وأما الأخرى فقد حاولت أن تتحدث باللغة العربية الفصحى فلم تستطع فطلب منها الحضور اشفاقاً عليها التحدث بلهجتها المحلية فلم تستطع أيضاً واعتذرت وواصلت حديثها باللغة الانجليزية.
واللغة العربية تتعرض حالياً لحرب شرسة وبعض المؤسسات العاملة في الدول العربية سواء كانت تعليمية أو غير ذلك تمنع منتسبيها من التحدث باللغة العربية.
والمشكلة الحقيقية تكمن في أن من يهدمون قواعد اللغة العربية ويهددون وجودها هم أصحاب هذه اللغة والبعض ومن فرط انبهارهم بالغرب وبالحضارة الغربية يريدون أن يحدثوا قطيعة بين اللغة العربية وبين أبنائها والناطقين بها.
ورفض التعلم باللغة العربية منطقي من وجهة نظر البعض فاللغة الانجليزية هي لغة العلم ولغة العصر شئنا أم أبينا ولكن هذا الرفض كارثي على الأمة وعلى مستقبلها ولنتذكر أن الغربيين الذين فتنا بلغتهم كان حالهم في القرون الوسطى أسوأ من حالنا الآن وفعلوا ما نطالب بفعله اليوم وهو ترجمة وتعريب ما تنتجه الحضارة الغربية في جميع ميادين العلم والمعرفة.
ولمن يقولون بأن التعلم باللغة العربية يقطع صلتنا بالحاضر نذكرهم بأن اللغة العربية كانت ركيزة أساسية من الركائز التي قامت عليها الحضارة الإسلامية ولم تشكل اللغة أي عائق واستوعبت علوم ومعارف الحضارات الأخرى وواكبت العلوم والمعارف التي وضع المسلمون الأوائل أسسها وأبدعوا في ذلك إيما إبداع وجعلوا من الغرييين تلامذة في المدارس والجامعات الراقية التي أقاموها وأخذ عنهم الغرب المفاهيم والأسس التي بنوا عليها حضارتهم.
والبعض قد يتهاونون في موضوع اللغة ولا يرونه ذا بال ولكنه أمر في غاية الخطورة فاللغة ليست مجرد وعاء للعلم وحامل للثقافة ولكنها أفضل معبر عن الهوية والانتماء وهي مكون ثقافي أصيل.
واللغة هي أخطر أداة من أدوات الغزو الثقافي لأن اللغات الأجنبية تحمل ثقافات الآخر وتكون مشبعة بقيمه ومفاهيمه وهذه القيم والمفاهيم تختلف وتتناقض في كثير من الأحيان مع قيمنا ومفاهيمنا.
وحملات التغريب بدأت بالهجوم على اللغة العربية وبمحاولات فرض اللغات الأجنبية وإحلالها محل اللغة العربية والهدف ليس استبدال لغة بلغة أخرى وإنما استبدال قيم ومفاهيم بقيم ومفاهيم أخرى مغايرة تماماً وصرف الناس عن تراثهم بل وعن دينهم فالابتعاد عن اللغة العربية يؤدي بالضرورة إلى الابتعاد عن الدين لأن العبادات والمعاملات في الإسلام مرتبطة باللغة العربية وفهم القرآن وتدبر آياته وفهم السنة وتطبيقها يحتاج إلى معرفة واتقان اللغة العربية.
هل من حلول لقضية التعريب؟
من الردود الوجيهة على قرارات فرض التعليم باللغة العربية في الجامعات العربية القول بأن المحتوى العلمي المكتوب باللغة العربية حالياً غير مواكب للثورة العلمية التي يشهدها العالم وحل هذه المشكلة يتم من خلال الاهتمام بقضية التعريب وبأن توليها الدول العربية اهتماماً كبيراً.
وقضية التعريب بحاجة إلى تكامل الجهود العربية وينبغي على كل قطاع أن تكون لديه رؤية واضحة في التعريب وتكون لديه خطة وآلية عمل لترجمة وتعريب ما استجد من العلوم والمعارف وتقديمها للمتعلمين والباحثين وللعاملين في المجالات المختلفة وبخاصة المجالات الحيوية والدول المتقدمة تقوم بعملية ترجمة وتعريب فورية للإطلاع على ما استجد من علوم ومعارف وإبداعات لدى الآخرين.
وحتى لا نحرم طلاب الجامعات العربية من الاطلاع على الجديد في مجال تخصصهم ونحرمهم من مواكبة العصر يمكن تأسيس هيئة أو لجنة للتعريب بكل جامعة عربية وإيجاد آلية للتواصل مع الجامعات الأخرى والاطلاع على تجاربها في تعريب العلوم المختلفة وقد قامت الجامعات السورية بجهد كبير في هذا المجال وحققت نتائج مبهرة.
والفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الأمم المتقدمة في المجالين العلمي والتقني ينبغي ألا تصيبنا بالصدمة وتقعدنا عن العمل والمشاركة وتكون أداة للتشكيك في قدراتنا ومبرراً للابتعاد عن لغتنا العربية فالعلوم والمعارف التي تتطور يوماً بعد يوم ليست نتاجاً غربياً خالصاً فهناك إسهامات جليلة للعلماء العرب والمسلمين قديماً وحديثاً في النهضة العلمية التي يشهدها العالم حالياً والدول العربية لديها المئات بل وآلاف من العلماء النابغين في أرقى المعاهد والجامعات في العالم وهؤلاء يمكن الاستفادة من علمهم وخبراتهم وتشجيعهم على تعريب كل جديد في مجال تخصصهم.
إحياء اللغة العربية
إحياء اللغة العربية يتطلب أولاً التوعية بأهمية اللغة في السباق الحضاري بين الأمم فالمشكلة ليست فيما نعاني منه تخلف عن ركب الحضارة ولكنها في اعتمادنا على علوم ومعارف الآخرين.
والأمم التي نهضت وتقدمت نهضت بتمسكها وحفاظها على اللغة الأم وبتدريس كافة العلوم بهذه اللغة وتمسك هذه الأمم بلغتها الأم لم يمنعها من تعلم اللغات الأخرى والإطلاع على علوم ومعارف الحضارات الأخرى.
وإحياء اللغة العربية يتطلب جهداً وعملاً جماعياً والبداية يجب أن تبدأ من مرحلة الروضة وهناك تجربة ناجحة للدكتور عبد الله الدنان وهي تعليم اللغة العربية الفصحى بالممارسة والسليقة وهذه التجربة ينبغي أن تعمم في جميع الروضات في الدول العربية والإسلامية.
ومن وسائل إحياء اللغة العربية التشجيع على التحدث بالفصحى من خلال الأنشطة المدرسية مثل الإذاعة المدرسية وجمعية الخطابة ومن خلال رفع مستوى مدرسي اللغة العربية واعتماد مناهج مبسطة وميسرة وشائقة تجذب الطلاب وتحبب اللغة العربية إليهم. وفي المرحلة الجامعية نحن بحاجة إلى بذل جهد أكبر في مجال الترجمة والتعريب حتى يظل طلاب الجامعات على تواصل مع ما تنتجه الجامعات ومراكز البحوث المتقدمة في العالم من علوم ومعارف.
وأثناء قيامنا بهذه الأعمال فرادى وجماعات لا بد أن يكون لدينا شعور بالمسؤولية تجاه لغتنا الجميلة وأن تكون اللغة العربية مصدر فخر واعتزاز لنا لأنها لغة الوحي ولأنها اللغة التي حملت قيم الإسلام ومبادئه السمحة وحملت العلوم والمعارف التي أنتجتها الحضارة الإسلامية للإنسانية جمعاء في الوقت الذي كان فيه العالم بأسره يتخبط في ظلمات الجهل والتخلف.