من الأمور التي بت على يقين منها أن لمخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ثمنًا باهظًا لا بد أن يدفعه الإنسان في حياته خصمًا من ماله وصحته وسعادته في الدنيا، ومحاسبة وجزاء عليها في الآخرة. وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفطرة التي فُطر عليها.
مخالفة فطرة التدين
أول أمر يدفع بالإنسان إلى الهاوية وخسارة الدنيا والآخرة، هو مخالفة فطرة التوحيد. يقول الله عز وجل:{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} سورة الروم: 30.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كمثلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ، هل ترى فيها جَدْعَاءَ”. صحيح البخاري: 1385.
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى:”وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا”. رواه مسلم: 2865. وحنفاء: مائلون إلى الحق. واجتالتهم: أضلتهم.
ومخالفة فطرة التوحيد نراها اليوم في موجة الإلحاد التي تعصف بالعالم كله وبخاصة الشباب في العالمين العربي والإسلامي، ونهايات من غُرر بهم وتركوا الإسلام وألحدوا وتحرروا من الدين كانت الانتحار.
والعواقب الوخيمة لمخالفة فطرة التوحيد نجدها في انتشار أمراض العصر كالقلق والتوتر والاكتئاب، والتي تؤدي في نهاية الأمر إلى الانتحار والسعي إلى الموت الرحيم الذي بات الغربيون يتفننون فيه، وآخر صيحة له هي كبسولة الموت التي يوضع الإنسان بداخلها ويموت خلال دقائق معدودات، ويصدر فيها الإنسان أمر إنهاء حياته بحركة بسيطة من عينه!
مخالفة الفطرة في الاجتماع
يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} سورة الحجرات: 13.
والإنسان كما يقولون “كائن اجتماعي بطبعه مدني بفطرته”، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي سلبت منه ذلك الطبع وتلك الفطرة، وحولته إلى كائن يميل للعزلة ويبتعد عن مخالطة الآخرين، ويعيش حياته في عالم افتراضي، وبذلك خسر الإنسان جزءًا مهمًا من كيانه وشخصيته والمتمثل في علاقته بالآخرين والتفاعل معهم.
ومخالفة فطرة الاجتماع أصابت الإنسان بالعديد من الأمراض النفسية مثل: التوتر والقلق والأرق والعصبية والاكتئاب والميل للعزلة والإدمان والتفكير في الانتحار، وهي أمور تصيب الإنسان نتيجة عدم الرضا عن الواقع الذي يعيشه مقارنة بواقع الآخرين المصطنع الذي يشاهده ويتطلع للعيش فيه ولا سبيل إليه.
مخالفة الفطرة في الغذاء
من رحمة الله عز وجل بالإنسان أنه حرم عليه كل ما يضر بجسمه. يقول الله عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ۚ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍۢ لِّإِثْمٍۢ ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة: 3.
والجميع باتوا يعرفون المضار الصحية للأطعمة والمشروبات التي حرمها الإسلام وفي مقدمتها لحم الخنزير والخمور، ولا ننسى أن مرض جنون البقر حدث نتيجة إطعام البقر بقايا الحيوانات التي يتم ذبحها.
ومخالفة الفطرة في الغذاء وتناول ما حرمه الله أدت إلى إصابة الإنسان بالعديد من الأمراض مثل: السمنة، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الجهاز الهضمي وتليف الكبد والفشل الكلوي وغيرها من الأمراض.
مخالفة الفطرة في النوم
يقول الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سورة الروم: 23. ويقول الله عز وجل:{وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاسًا وَٱلنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورًا} سورة الفرقان: 47.
السهر ينبغي ألا يكون إلا لضرورة، ولكنه أصبح من الآفات التي ابتلي بها الكثيرون في هذا الزمان وبخاصة الأطفال والمرهقون فتراهم يسهرون ليلًا وينامون بالنهار، الأمر الذي يؤدي إلى الإصابة بالكثير من الأمراض مثل: أمراض القلب، وارتفاع خطر الإصابة بالسرطان، وانخفاض الرغبة الجنسية لدى الرجال، والسمنة وزيادة الوزن، والتعرض لحوادث القيادة، ومن أضرار السهر النفسية والعصبية والمعرفية: الأرق، وفقدان التركيز وصعوبات التعلم، والنسيان، والاكتئاب.
مخالفة الفطرة في الزواج
جعل الله عز وجل الزواج آية من آياته، يقول الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. سورة الروم: 21.
وحرم الله عز وجل الزنا، يقول الله عز وجل:{وَٱلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} سورة الفرقان: 68.
وشنع على قوم لوط المثلية والشذوذ الجنسي، يقول الله عز وجل:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} سورة الشعراء: 165-166.
والأمراض الجنسية التي تصيب الإنسان نتيجة الزنا والشذوذ الجنسي كثيرة ومنها: الإيدز والسيلان والزهري والهربس وغيرها من الأمراض التي تنتقل عن طريق الممارسات الجنسية المحرمة.
مخالفة الفطرة في السلوك
جُبل الإنسان على التعاون ومساعدة الآخرين، وهو ما نراه بوضوح عند الأطفال الصغار، الذين يظهرون التعاطف مع الآخرين ويرغبون في مساعدتهم.
ومخالفة الفطرة في السلوك يأتي في مقدمتها الاعتداء على الآخرين، وقد ورد النهي عنه في القرآن الكريم، يقول الله عز وجل:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} سورة البقرة: 190.
ومن صور مخالفة الفطرة في السلوك التعاون على الإثم والعدوان، وظلم الآخرين، وهضم حقوقهم والانتقاص منها. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أَما وَاللَهُ إِنَّ الظُلمَ شُؤمٌ وَلا زالَ المُسيءُ هُوَ الظَلومُ
إِلى الديّانِ يَومُ الدينِ نَمضي وَعِندَ اللَهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ
الفطرة والسعادة في الدنيا والآخرة
الله عز وجل هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بما يصلح له أمر دنياه وآخره. يقول تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة الملك: 14.
وكل ما حرمه الله عز وجل فيه خير للإنسان، والمنع والتحريم لا يعنيان حرمان الإنسان من الخير، بل فيها من الخير الكثير، ودائرة المحرمات محدودة جدًا مقارنة بدائرة الحلال والمباحات، والله عز وجل حرم علينا الخبائث، وأحل لنا الاستمتاع بالطيبات. يقول الله عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} سورة الأعراف: 32.
وختامًا نقول إن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة مرهونة بالمحافظة على الفطرة التي فُطر عليها، والانسجام والتناغم مع الكون الذي خلقه الله عز وجل ليسبح بحمده.
رابط المقال على مدونات الجزيرة: