مقاصد الشريعة
مقاصد الشريعة* هي:”المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، أو عند كل حكم من أحكامها؛ لمصلحة العباد في الدارين”(1)
وعن حفظ الضروريات الخمس يقول شيخ المقاصد الإمام الشاطبي:” اتفقت الأمة – بل سائر الملل – على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس – وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل -، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل ُعلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه”.(2)
ويقول فضيلة الشيخ عمر عبيد حسنة:” إذا أمعنا النظر في مقاصد الشريعة، التي أسماها بعض الفقهاء بالكليات الخمس أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة ولا يأمن الناس إلا بتوفرها وحمايتها، نراها جميعاً تتمحور حول حفظ حقوق الإنسان وحماية إنسانية الإنسان وتحقيق كرامة الإنسان. وإن أي انتهاك لحقوق الإنسان أو عدوان عليها، يعتبر جريمة كبرى، وخرقاً لحدود الله”.(3)
” وكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة. وهذه الأمور الخمسة هي وسيلة إلى تحقيق غاية كلية واحدة هي أن يكون المكلفون عبيداً لله في التصرف والاختيار كما هم عبيد له بالخلق والاضطرار”.(4)
” وأحكام الشريعة الإسلامية جاءت تقصد أول ما تقصد إلى حفظ معنى الحياة الإنسانية، وإلى الارتقاء بقيمها إلى الأفق الذي أراده الله منها، وهو أفق أن يكون الإنسان خليفة لله تعالى في الأرض، إذ لو اختلت هذه الحياة فيما قامت عليه من عنصري الفطرة والتدين لانهار معناها، وفقدت قيمتها، فلم يعد ينطبق عليها معنى الحياة الإنسانية”.(5)
ويقول الدكتور عبد النور بزا:” إن المقاصد هي نفسها مصالح الإنسان، والمصالح والمقاصد وجهان لحقيقة واحدة هي سعادة الإنسان في الدارين ابتداء وانتهاء، ومقاصد الشريعة لا تقوم في الوجود والواقع إلا برعاية وتحقيق مصالح الإنسان المختلفة، كما أنه لا رعاية لمصالح الإنسان دون استحضار لمقاصد الشارع”.(6)
ويتضح من ذلك أن حقوق الإنسان هي جوهر مقاصد الشريعة الإسلامية، فكل جزئية من جزئياتها هدفها الارتقاء بالإنسان، والحفاظ على حقوقه، وفي مقدمتها تخليص الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل بكل أشكالها وصورها، وإقرار حقه في الاعتقاد، وحفظ النفس وتزكيتها والارتقاء بها، وتحرير عقل الإنسان من الأوهام والخرافات والأساطير، وعدم تغييب هذا العقل وتعطيله عن أداء وظيفته بأي وسيلة من الوسائل، وتوفير الحماية للنسل حتى تستمر دورة الحياة، والحفاظ على الأعراض، ضماناً لطهارة المجتمعات، والحفاظ على المال لأنه عصب الحياة، ومن أهم مقوماتها، والحفاظ على ترابط الأسرة وتماسك المجتمع، والحفاظ على البيئة المحيطة بالإنسان، لكي يمارس الاستخلاف في الأرض بلا عنت أو منغصات.
” وللشريعة الإسلامية خصائص عامة تميزها عن غيرها من الشرائع؛ لأنها شريعة الله الكاملة الخالدة ما دامت الحياة البشرية قائمة. ومن هذه الخصائص عمومها بحسب المكلفين، وبحسب الزمان والمكان، ومنها جمعها بين الثبات والمرونة، ومنها شمولها لرعاية مصالح الدين والدنيا ومصالح الأفراد والجماعة، ومنها ربطها لأحكام السلوك والتعامل بوازع الإيمان بالله واليوم الآخر، ومنها حفظ مصادرها من التحريف أو التبديل”.(7)
والتناقض الذي حدث في توصيف حقوق الإنسان، وتقسيمها، وسبل المطالبة بها، وطرق الحفاظ عليها من التعديات والانتهاكات، يرجع إلى الاختلاف الجوهري في طبيعة النظرة إلى سبب وجود الإنسان ووظيفته في هذه الحياة وعلاقته بالكون من حوله.
” فمنطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية – بغض النظر عن الفكر والمنهج – بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل “الواجب الشرعي” في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاصرة”.(8)
والإسلام هو دين الفطرة، وهو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للناس جميعاً، ومنهج هذا الدين منزل من عند الله عز وجل الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح لهم شؤون دنياهم ويصلح لهم آخرتهم، ولذلك يخطئ من يظن أن هناك تعارضاً بين الشريعة الإسلامية ومصالح العباد المعتبرة شرعاً، وقد فصل العلماء في دحض ذلك الافتراء.
يقول ابن القيم رحمه الله:” إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”.(9)
ومن هنا كان اهتمام الشريعة بالضرورات التي تحفظ للإنسان دينه ومقومات حياته، ولذلك دعت إلى الحفاظ على الكليات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وأضاف كل من الإمام الطوفي والسبكي والزركشي وشهاب الدين القرافي إلى هذه الخمس: العرض، ولكنه في الحقيقة داخل ضمن إحدى الكليات الخمس.
وهذا الاهتمام بالضروريات الخمس ُيبرز بوضوح ُخصوصية الإسلام في مجال حقوق الإنسان، فالإسلام رفع قيمة هذه الحقوق فجعلها ضرورات ينبغي الحفاظ عليها، والمطالبة بها.
المراجع:
(1) حسن يشو، المادة العلمية لدورة “مقدمة في علم مقاصد الشريعة”، أقيمت الدورة في الفترة من 22-26/4/2009م، بقاعة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ص7.
* يقول الدكتور حسن يشو عن هذا “التعريف المختار” كما سماه: توخى التعريف الجمع بين أروع التعريفات وتفادى جل الثغرات الملحوظة عليها.
(2) أبو إسحاق الشاطبي (ت 790هـ)، الموافقات، تقديم الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد، دار ابن عفان – السعودية، ط 1: 1417هـ – 1997م، المجلد الأول، ص31.
(3) عمر عبيد حسنة، رؤية في عوامل النهوض، المكتب الإسلامي، ط 1: 1427هـ- 2006م، ص127.
(4) عبد القادر بن حرز الله، المدخل إلى علم مقاصد الشريعة (من الأصول النصية إلى الإشكاليات المعاصرة)، مكتبة الرشد – الرياض، ط 1: 1426هـ – 2005م، ص134.
(5) عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي – بيروت، ط 2: 2008م، ص60.
(6) مجلة إسلامية المعرفة، مجلة فكرية فصلية محكمة يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد: 55، السنة الرابعة عشرة، شتاء 1430هـ – 2009م، ص138، نقلاً عن كتاب: مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية، للدكتور: عبد النور بزا، هرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2008، ص448 .
(7) يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، سلسلة الرسائل الجامعة (5)، الدار العالمية للكتاب الإسلامي و المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2:: 1415هـ – 1994م، ص42.
(8) هبة رؤوف عزت. http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/mafaheem-aug-2000/mafaheem-1.asp
(9) ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت، ط 1: 1425هـ – 2004م، ص599.
* المصدر: كتاب أزمة حقوق الإنسان، محمد إبراهيم خاطر، دار ابن الجوزي، 2012م