هل أنت شخص مسؤول؟
إذا كان قدرُ المرءِ في الحياة أن تتعدد اهتماماته، وتتسع دائرةُ همومِه وهِمَمِه في كل ما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع والرخاء؛ فهذا أمرٌ طيب نثمنه ونباركه. وفي ذات السياق تتردد كلمة المسؤولية في كل يومٍ وفي كل مكان، هذا يجعلنا في حاجة للوقوف مع النفس بصدق، وعليك -صديقي القارئ- أن تسأل نفسك: هل أنا شخصٌ مسؤول؟ وسيدفعُك هذا السؤال لما يُدهِشُك! فالواقع الذي نحياه قد يفرض على المرء الخوض في العديد من الصعوبات والتحديات، وهي بلا شك مِحنٌ على طريق النجاح الذي نتغنى به، وقَلّ من يتسلح بالسبل التي تعزز فرص نجاحه على كافة المستويات والأصعدة. ولنرجع إلى الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه؛ فإنّ المسؤولية تشمل قدرة الفرد على إشباع حاجاته على نحوٍ لا يحرم الآخرين من إشباع حاجاتهم، فالمسؤولية هنا ترفض الميكافيللية وتببذ الأنانية، والشخص المسؤول يأتي من الأفعال ما يجعله يشعر باحترامه لنفسه، كما أنّ أفعاله ترسخ لاحترام الآخرين له. ولقد كانت “أبيتَ اللعنَ” تحيةُ الملوكِ في الجاهلية؛ ومعناها أبت أخلاقك الكريمة أن تأتي من الأفعال ما يكون مدعاةً لذمِك وانتقاص قدرك بين الناس، وهذا لا يُقدّم عليه إلا كبار الهمم من الناس.
هنا ملمحٌ في غاية الأهمية يتجسد في أنّ المسؤولية بمثابة الحافز الداخلي كي يكتسب الإنسان احترام ذاته، ومن ثّمَ فهو يلتزم التزامًا شخصيًا من تلقاء نفسه بتنفيذ المهام سواء التي ألزم نفسه بها، أو التي أسنِدت إليه؛ ليحظى بقدرٍ من احترام الذات واحترام الآخرين له. على النقيض من ذلك فإن الشخص الغير مسؤول يفتقد للمسؤولية بالمعنى المشار إليه، وعليه فإنه قد لا يكترث بإلحاق الضرر بغيره من الناس في سبيل تحقيق مطامحه ومطامعه، كما حرق نيرون روما قبل ذلك، فالشخص الغير مسؤول لا يريد أن يُجهِدَ نفسه ليحقق احترامه لذاته، ولا يهتم باحترام الآخرين له، ويغفل عن حقيقةٍ مؤلمة وهي أنه سيعاني وسيكون في ذات الوقت سببًا في معاناة من هم في محيطه.
الطفيل بن عمرو الدوسي فور نطقه بالشهادتين استشعر أنه مسؤول عن أهله وذويه؛ فطلب من الصادق الأمين –صلى الله عليه وسلم- أن يسمح له بأن يصدح بالدعوة المحمدية في ديار فأذن له المصطفى ليعود الطفيل بثمانين بيتًا من دوسٍ قد خلعوا عنهم رداء الشركِ على عتبة التوحيد، وأذعنوا لدعوة الحميد المجيد. ثم ارتقت به مسؤوليته؛ فإذا به يدخل على المصطفى قائلاً: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه؛ فأجابه المصطفى بقوله: أجل! فاخرج إليه، فقام على الأمر خير قيام وقد بذل فيه نكيثته. عاد الطفيل بعد ذلك ملازمًا لخير الأنام حتى قُبضَ المصطفى، ولم يتوان في خدمة دينه الذي شعر بأنه مسؤول عن رفع رايته، فلما نادى المنادي أن يا خيل الله اركبي قاصدةً اليمامة، لبى الطفيل ولم يكن في طوقِ رجلٍ بهمة الطفيل أن يتقاعس عن المسؤولية، واستشهد الطفيل في معركة اليمامة وقد قدّم مثالاً رائعًا للمبادرة ولتحمُّل المسؤولية وعدم الركون إلى التواني.
هذا السعي المبارك للطفيل بن عمرو رضي الله عنه ينقلنا لحديثٍ جليلٍ قد انزوينا عن غايته النبيلة، وسلك الكثيرون درب التنصل عن هذه الغاية، وأقصد حديث الراعي والرعية؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“ (متفقٌ عليه). وبالنظر لكل من تقلد منصبًا أو نال مرتبةً في مجال مجالات الحياة، تراه وقد ألزم نفسه تحمُّل المسؤولية ليصبح جديرًا بالمكانة التي وصل إليها. وهنا لا نُنَظِّرَ لضرورة تولي المناصب، بل نربط بين تولي المسؤولية وبين الرُقي في مساقات العمل والحياة، فلربما كان الرجل المسؤول لا يسعَ للمنصب، ولكنه لا يدخر جهدًا في مساعدة من يحتاجون للنُصرةِ والمساعدة. أيضًا ليس بالضرورة أن يكون ارجل المسؤول ممن يستهويهم البهرج الخداع للظهور على الشاشات والصحف والمجلات. أنت تعرف الكثيرين ممن يؤدون مهامهم في سكونٍ وتواضعٍ دون أن تلتقط الكاميرات صورهم وهم يؤدون واجبهم تجاه أهلهم، ووطنهم، وأمتهم.
إنّ الشخص المسؤول شخصٌ يعي تمامًا أنه لبِنَةٌ في بناء، ومتى حَلَّ الوهنُ ودبّ الضعف بهذه اللبنة؛ فإن البناء سيتصدع إن عاجلاً أو آجلاً، فتراه يتحركُ بنشاط ليساعد غيره من الناس، وهو في ذلك يكسب احترامهم، تجده يضرِبُ بسهمٍ وافر في العمل التطوعي، لا يستهويه التقاعس وتوزيع كلمات الهزيمة النفسية على من حوله بمنتهى الكرم؛ بل تراه يقظًا يدرك المخاطر ويستوعبها، وفي ذات الوقت يسعى لعلاجها ولرأب صدعها. الشخص المسؤول يُدْخِلُ المحاسبةَ في إطار المسؤولية، انظر إليه وقد أدركَ أنّه محاسبٌ على سلوكه؛ لا يرفع شعار الإتكالية، ولا يتنصل من التزاماته، كما أنه دائمًا أبدًا لا يتذرع بالمعيقات والمثبطات. الشخص المسؤول جديرٌ بالاحترام؛ فهل أنت شخص مسؤول؟
إذا كان جوابك: نعم! فهنيئًا لك أيها الرجل المسؤول، واسمح لي أن أهمس في أذنك بهذا السؤال: ما هو حجم مسؤولياتك؟ وهل يمكنك أن ترفع من سقف مسؤولياتك؟ فلأنك رجلٌ مسؤول فإن الهامات مشرأبةٌ لك، تطلبُ منك المزيد من العناية بها والقيام على مساعدتها. ولعل ذلك ما دعى المهلب بن أبي صُفرة أن يجيب رجلاً قال له: يا أبا سعيد! لنا إليك حويجة (تصغيرُ حاجة)! فقال المهلب: فاطلبوا لها رجيلاً (تصغيرُ رجل)؛ فإنما أنا للشدائد والعظام. أما إن كان الجواب: لا، وحاشاك أن تكون سّبَهْللاً؛ فخذها مني وعض عليها بالنواجذ لتنعم في الدارين: اجعل لنفسك قدرًا من المسؤولية، وليكن هذا القدر من المسؤولية يتزايد بمرور الوقت، حتى لا تقع فريسة الفراغ الذي هو مغبنة الكثيرين، وما أوقع الشبابَ في مستنقع الاكتئاب، والأمراض النفسية، والمخدرات، والجنس، والجماعات المتشددة والتكفيرية والتخريبية إلا الفراغ الذي ملأ عليهم حياتهم. اقرأ في سير أصحاب الهمم العالية لتجد لك أنموذجًا، بل نماذج تستعصي عن السرد والإحصاء ممن كانت لهم بصماتٌ إيجابية لا يمحوها الحدثان، أفرزها للوجود تمسكهم بالمسؤولية، ورفضهم لأن يكونوا في مؤخرة القطار.
ولأنّ شبيه الشيء منجذبٌ إليه؛ فأدعوك لمصاحبة الأخيار من أصحاب المسؤولية والهمة والتفاؤل ممن ينشرحُ الصدر بالجلوس إليهم أو السماع عنهم، وأبشركَ بأنّ إصرارك على تولي زمام نفسك والإصلاح من شأنها هو في حد ذاته أحد أنواع المسؤولية الرشيدة. طابت أوقاتك، ولتجد لك صُحبَةً تدور في فلك المسؤولية؛ سَلْ كُلَّ من حولك: هل أنت شخصٌ مسؤول؟!
محمد الشبراوي
Life.chemistry@outlook.com