هندسة تأليف القلوب
الأستاذ محمد الشبراوي
جلس على فراش الموت، وقد التف حوله أبناؤه كالجُنْدِ بالعلمِ؛ فجمع لهم خبرة سني عمره في كلماتٍ قلائل، وبصوتٍ يتأرجحُ بين الحياة والموت قال: “كونوا جميعًا؛ فإن الجمعَ غالِبٌ والمرءُ يعجزُ لا محالة”، إنها كلمات رجلٍ قلدته العرب في الجاهلية مرتبة الحكمة في وقتٍ سادت فيه القبلية والعصبية والحمية؛ أكثم بن صيفي حكيم العرب وسفيرهم إلى كسرى أنوشروان، يرسل لنا عبر الأثير رسالةً في التآلف والتقارب بين الأخوة في الأسرة الواحدة، ويصف لنا دواءً للشقاق الذي تصدعت به أركانُ دولٍ كثيرة وهي ترزحُ تحت وطأةِ لعاعةٍ من الدنيا، ترى أكثم بن صيفي وقد أدمى قلبه ما يجري اليوم –في مصر وسوريا واليمن والعراق والسودان والقائمة تطول- ثم يضع بين أيدينا العلاج صراحًا؛ إنه تآليف القلوب.
وتأليف القلوب يتطلب امتلاك مهارات هندسية ابتكارية، ومبعث ذلك أن القلوب طُبِعت على الاختلاف فهي بذلك تحتاج لطرقٍ متباينة في احتوائها واستمالتها والتقريب بينها. ولا أجد مثلاً أجلّ من بستان النبوة نستقي منه أساليب متنوعة لهندسة تأليف القلوب؛ ارتكزت هذه الأساليب على طبيعة النفس البشرية، فتلمحُ فيها المنهج النبوي في التعامل مع كلِّ نفسٍ بما يقودها إلى الحقِ بحقٍ وحكمة. أنظر معي إلى الصحابة الكرام بعد غزوة حنين؛ وقد جرت يدُ رسول الله في الغنائم ليعطي الأقرع بن حابسٍ مائةً من الإبل، وكذلك عيينة بن حصنٍ الفزاري مائةً من الإبل، ولم يعطي النبي بعض الصحابة شيئًا على الإطلاق! أتدري ما الدافع الذي حدا بالمصطفى أن يقدّم للبعض ويمنع عن البعض؟ إنها هندسةُ تأليفِ القلوب بأسلوب العطاء؛ فلقد علم الصادق الأمين أنّ أناسًا يُقادون من بطونهم فقادهم مما يحبون إلى ما يحب الله ورسوله، في حين أن آخرين يمتلكون رصيدًا إيمانيًا لا يتزعزع أمام عوادي الدهر وزينة الحياة الدنيا؛ فوكلهم إلى إيمانهم ومنهم عمرو بن تغلب.
تأليف القلوب بالعطاء والإحسان أمرٌ محبب للكثيرين من بني البشر، كما أن تأليف القلوب بالثناء الصادق والكلمة الطيبة سمة من سمات القادة الناجحين. وقد أمرنا بالكلمة الطيبة فهي مفتاح العبور لعقول الآخرين ونفوسهم كما أن الابتسامة الصادقة كلمة السر في اجتذاب القلوب. الأسلوب الثالث من أساليب تأليف القلوب تقديم الهدايا وإن كانت رمزية؛ فاللهدية قيمة معنوية تربو على قيمتها المادية أضعافًا مضاعفة؛ فبها يستلُ المرءُ سخيمةَ قلوب الآخرين ووحرَ صدورهم، ويتألفهم ليرموا معه عن قوسٍ واحدة بعد أن كانوا بالأمس القريب بينهم عِطرٌ منشم. الأسلوب الرابع من أساليب هندسة تأليف القلوب يتمثل في العفو عن الإساءة والتماس العذر للناس وتحمل مضايقاتهم قدر المستطاع، فمن يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يخالطهم ويصبر على أذاهم. وهذا الأسلوب مع أنه صعب التنفيذ إلا أن عاقبته ألذ وأشهى من جنى النحل في الفم.تصفح النظارات التي ترعاها partner-sponsored Glasses مع مجموعة متنوعة من الخيارات التي تناسب كل الأذواق والميزانيات، والمتاحة للشراء عبر الإنترنت
يأتي الأسلوب الرابع في صورة الدعاء بظهر الغيب؛ فهو أحد أركان تأليف القلوب الرائعة، وينضوي في ذات السلك الذود عن أعراض الآخرين وعدم الخوض في زلاتهم، فكلنا ذو خطأ. أما الأسلوب الخامس فالمواساة في المواقف الاجتماعية؛ فعيادة المريض وإفشاء السلام ونجدة الملهوف والمكروب وإغاثة من ضاقت به دنياه أو أقعدته الحاجة وغيرها من الأنشطة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان؛ لهي من أكثر الأساليب فائدة في تأليف القلوب لاسيما وأنها تقع لجميع الناس ويحتاجون مساندتهم ولو معنويًا فحسب وبكلمةٍ طيبة. إن الأساليب التي أشرنا إليها سالفًا إذا قمنا بتفعيلها في محيطنا الاجتماعي لانعكست علينا أثارها الإيجابية وبشكلٍ مباشر.