مسكين ذلك الإنسان الذين يظن نفسه مستهلكًا للأشياء، وهو في حقيقة الأمر مُستَهلك في كثير من الأحيان، تارة باسم الدين، وتارة أخرى تحت شعارات العمل والإنتاج وصنع الحضارة، والنتيجة هي خسارة الإنسان للدنيا والآخرة، وتضييعه لفرصة الاستماع بالحياة، وإسعاد نفسه والآخرين.
الاستبداد والاستعباد المعاصر
الحياة البسيطة التي عاشها الإنسان قديمًا وفرت له القدر الكافي من الراحة ومن التواصل مع الآخرين، وأتاحت له الفرصة للاستمتاع بالحياة، ومع تطور (تعقد) الحياة أصبح الإنسان ترسًا في آلة العمل الجبارة التي تعمل بلا توقف ولا يخرج الإنسان من هذه الآلة إلا عندما تصاب أعضاؤه بالعطب، أو يتم الاستغناء عن خدماته ويحال إلى التقاعد ليجد نفسه في مواجهة الشيخوخة وأمراضها.
ومن الوسائل المعتمدة لدى المستبدين لإذلال وقهر الشعوب، شغل الجماهير بالعمل لساعات طويلة من أجل توفير القوت الضروري، والكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة، وبذلك لا تجد الجماهير وقتًا للمطالبة بالحقوق والحريات.
وأسوأ أنواع العمل المعاصرة هي العمل على فترتين صباحية ومسائية؛ لأنه يستهلك اليوم كله ولا يترك للإنسان أي فرصة لممارسة الأنشطة الاجتماعية أو الاستمتاع بالحياة، ويوم الراحة الوحيد في الأسبوع يقضيه الفرد في قضاء أموره الضرورية والاستعداد لأسبوع جديد من العمل والكدح، ومنها أيضًا العمل بنظام المناوبات ما بين الفترة الصباحية وفترة العصر وفترة ما بعد العشاء؛ لأنه يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب.
والدكتور طارق السويدان وصف الوظيفة بأنها العبودية المعاصرة، حيث يتحكم صاحب العمل بالموظفين، فهو السيد الذي يأمر فيطاع، أما الموظف فهو العبد الذي ينفذ طلبات سيده، ولا يستطيع اتخاذ أي قرار بنفسه.
والطمع والجشع ربما دفعا الإنسان دفعًا للعمل لساعات طويلة لجمع الكثير من الأموال، وقد ورد في الإسرائيليات:“يا اِبنَ آدمَ خَلَقتُكَ لِلعِبَادةَ فَلا تَلعَب، وَقسَمتُ لَكَ رِزقُكَ فَلا تَتعَب، فَإِن رَضِيتَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ أَرَحتَ قَلبَكَ وَبَدنَكَ، وكُنتَ عِندِي مَحمُودًا، وإِن لَم تَرضَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لأُسَلِّطَنَّ عَلَيكَ الدُنيَا تَركُضُ فِيهَا رَكضَ الوُحوش فِي البَريَّةَ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ لَكَ فِيهَا إِلا مَا قَسَمتُهُ لَكَ، وَكُنتَ عِندِي مَذمُومَا“.
وهذا للأسف حال الكثير من الناس اليوم، يركضون في الدنيا ركض الوحوش في البرية ولا يعودون من ذلك بشيء، إلا الندم والحسرات على ما ضاع وفات وعلى ما لم يأت.
الاستهلاك الديني (الرهبانية)
الرهبانية هي طريقة أخرى من الطرق التي يستهلك فيها الإنسان نفسه، عندما يلزم نفسه بشيء زائد عما افترضه الله عز وجل عليه، أو يترك شيئًا أحل الله عز وجل الاستمتاع به، يقول الله عز وجل:{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة الحديد: 27.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:”جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي”. صحيح البخاري: 5063.
استهلاك الإنسان المعاصر
الإنسان المعاصر صار مُستهلَكا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فهو مُستهلَك روحيا ونفسيًا وعقليًا وبدنيًا وماليًا، ووسائل هذا الاستهلاك كثيرة ومتنوعة ومنها العمل لساعات طويلة، وما لا يستهلكه العمل تستهلكه وسائل التواصل الاجتماعي التي تستهلك عمر الإنسان وطاقته، وتحرمه من الاستمتاع بحياته والانشغال بحياة الآخرين واهتماماتهم.
ومن أسوأ أنواع الاستهلاك المعاصرة استهلاك جسد المرأة في الإعلانات التجارية التي تجعل من المرأة سلعة وعميلًا في نفس الوقت، والأسوأ من ذلك هو استهلاك جسد المرأة في الدعارة التي أصبحت مافيا عالمية، ومن أضخم التجارات العالمية بعد تجارة المخدرات والأسلحة.
وما فعلته الرأسمالية المتوحشة بالإنسان المعاصر يتضح من خلال هذه القصة، فيحكى أن رجل أعمال زار قرية ساحلية يعيش أهلها على صيد السمك، وكان أهلها يصطادون القليل من السمك، ويعودون مبكرًا لذويهم فيلعبون من أطفالهم ويتسامرون مع زوجاتهم وأصدقائهم. فقال لهم: لماذا لا تقضون وقتًا أطول في في صيد السمك وبالمال الذي تحصلون عليه تشترون سفنًا كبيرة للصيد ويكون لديكم مصنع للأسماك، ويصبح لديكم الكثير من المال، فتبنون بيوتًا فخمة وتشترون سيارات حديثة ويكون لديكم وقت تقضونه مع عائلاتكم؟ فقالوا له: نحن سعداء بما نفعله الآن!
كيف عالج الإسلام قضية استهلاك الإنسان؟
يقول الله عز وجل:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} سورة القصص: 77.
وعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ بَعثَ إلى عُثمانَ بنِ مَظعونٍ فجاءَهُ فقالَ يا عُثمانُ أرغِبتَ عن سنَّتي قالَ لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ ولَكن سُنَّتَكَ أطلُبُ. قالَ فإنِّي أنامُ وأُصلِّي وأصومُ وأُفطِرُ وأنكِحُ النِّساءَ فاتَّقِ اللَّهَ يا عثمانُ فإنَّ لأهلِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لضَيفِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لنفسِكَ علَيكَ حقًّا فصُم وأفطِرْ وصلِّ ونَمْ” صحيح أبي داود: 1369.
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال:”دخلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حُجرتي، فقالَ: ألم أخبَرْ أنَّكَ تقومُ اللَّيلَ، وتصومُ النَّهارَ. قالَ: [قلتُ]: بلَى، قالَ: فلا تفعَلَنَّ، نَم وقُم، وصُم وأفطِرْ، فإنَّ لِعينِكَ عَليكَ حقًّا، وإنَّ لجسدِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لزَوجَتِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لضَيفِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِصَديقِكَ علَيكَ حقًّا“. أخرجه البخاري (1976)، ومسلم(1159).
الكرامة الإنسانية
الإنسان مكون من روح وجسد، ولكي يحيا الإنسان حياة طيبة هانئة لا بد أن تأخذ الروح ما تحتاجه من غذاء وكذلك الجسد، وغذاء الروح في العبادة والذكر والاتصال بالخالق جل وعلا والتأمل، وغذاء الجسد في الغذاء الجيد وممارسة الرياضة والراحة، وكلها أمور بحاجة إلى وقت للقيام بها، وقد ظهرت حديثًا دعوات لتقليص عدد ساعات وأيام العمل واستجابت لها شركات مثل شركة مايكروسوفت، ودول مثل أيسلندا واسكتلندا وإسبانيا وغيرها.
ولكي تتحقق الكرامة الإنسانية لا بد أن يتوفر للإنسان الوقت الكافي لممارسة العبادة والاتصال بخالقه جل علا، والوقت الكافي لتنمية العقل بالقراءة والاطلاع والتفكر، والوقت الكافي لممارسة الرياضة، والوقت الكافي للنوم والراحة، حتى لا يصبح الإنسان مجرد ترس في آلة دوارة لا تتوقف وتستهلك طاقة الإنسان وتستنزف عمره.
محمد خاطر
كاتب ومدرب
رابط المقال على مدونات الجزيرة: