مرارة فقد أحد الوالدين هي الأشد وقعًا على نفس الإنسان؛ لأنه بفقدهما يفقد الأمان والمحبة الخالصة، ويفقد بركة وجودهما ودعائهما، ولذلك على العاقل أن يلزم أقدامهما وأن يسعى في مرضاتهما حال حياتهما ما استطاع لذلك سبيلًا.
أدركوا ما لا يعوض
أول شيء في هذه الحياة لا يمكن تعويضه هو الوالدان، فينبغي على العاقل أن يستمتع بوجودهما، وأن يظل بقربهما، وأن يسعى لمرضاتهما قبل أن يغادرا هذه الحياة فيندم على ما قصر في حقهما ولات حين مندم.
وحق الوالدين من أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، يقول الله عز وجل:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} سورة النساء: 36.
ويقول تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} سورة لقمان: 14.
الوجه الآخر للألم والابتلاء
الله عز وجل يبتلي الإنسان لحكمة أرادها، ومنها أن يكفر عن العاصي والمسرف على نفسه من ذنوبه على قدر بلائه، ويرفع به درجة الطائع في الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى“. صحيح أبي داود: 3090.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ، حتَّى يلقَى اللهَ وما علَيهِ خطيئةٌ”. أخرجه الترمذي: 2399.
ومن حكم الابتلاء التي لا يدركها كثير من الناس أن الله عز وجل يقطع عنهم الأسباب الدنيوية حتى يلجأؤوا ويتضرعوا إليه سبحانه وتعالى وحده.
والناس في مواجهة الابتلاء قسمان: قسم يجزع ويسخط ويعترض على قضاء الله عز وجل، وفي ذلك سوء أدب مع الله عز وجل. والسخط لا يغير من واقع الإنسان شيئًا، ولكنه يزيد الإنسان بعدًا عن الله عز وجل وعن رحمته.
والقسم الآخر يصبر ويرضى بما قضاه الله عز وجل، وهؤلاء يكتب الله عز وجل أجرهم. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”عِظَمُ الجزاءِ معَ عِظَمِ البلاءِ وإنَّ اللَّهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاَهم فمن رضيَ فلَهُ الرِّضا ومن سخِطَ فلَهُ السُّخط”. أخرجه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031) واللفظ له.
ويقول الله عز وجل:{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} سورة البقرة: 155-157.
يقول السعدي رحمه الله في تفسيره:”{أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: ثناء وتنويه بحالهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله“.
مصيبة الموت
الموت يُصبح رحمة من الله عز وجل إذا اشتد البلاء وعظم، وذلك على الرغم قسوته وشدته وكونه مصيبة كما وصفه القرآن الكريم، يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} سورة المائدة: 106.
والمسلم -ولا شك- يحزن لفقد أحبابه، ولكن يخفف وطأة ومرارة ذلك الفقد علم المسلم بأن الميت ينتقل بالموت من جوار العباد وجورهم إلى جوار رب العباد وجوده، ومن دار الفناء إلى دار البقاء والخلود، ومن دار الابتلاء إلى دار النعيم، ومن الكبد والشقاء إلى الراحة والسعادة، ومن ظلم وجحود البشر إلى العدل الإلهي المطلق، ومن الخوف والجزع إلى الأمن والطمانينة، ومن الفقر والحاجة إلى الوفرة والرفاهية، ومن منغصات وآلام الدنيا إلى مبهجات الجنة ونعيمها.
ولذلك كله يحب المؤمن لقاء ربه جل وعلا، وفي الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَن كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ فَقُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ أَكَرَاهيةُ المَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوْتَ، فَقالَ: ليسَ كَذَلِكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ برَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ، أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، فأحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وإنَّ الكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بعَذَابِ اللهِ وَسَخَطِهِ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ”. صحيح مسلم: 2684.
والصالحون كانوا يستبشرون بقدوم الموت، فمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال:”مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مُغَيَّب، حبيب جاء على فاقة”.
ولمَّا احتُضرَ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أتاهُ ناسٌ منَ الأعرابِ، قالوا لَهُ: يا حُذَيْفةُ، ما نَراكَ إلَّا مقبوضًا، فقالَ لَهُم:”عَبٌّ مَسرورٌ، وحَبيبٌ جاءَ على فاقةٍ، لا أفلَحَ مَن ندِمَ”.
والإنسان يكره الموت لأمرين: أولهما لأنه متعلق بالدنيا ومتاعها الزائل، وثانيهما لأنه نسي الآخرة ولم يقدم لنفسه عملًا صالحًا ينتفع به في الآخرة. قال سليمان بن عبد الملك لسلمة بن دينار: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال:”عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب”.
وهذا هو حالنا اليوم، والعاقل من الناس من لا ينس نصيبه من الدنيا، ويعد العدة للآخرة، ويعمرها بالأعمال الصالحة.
وعزاء المسلم في مصيبة الفقد، هو الرجاء في لقاء من يحبهم في الجنة، وأن ما عند الله خير لهم وأبقى، ويبقى لنا أن نسأل الله عز وجل أن يُحسن خاتمتنا، وأن يُلحقنا بالأحبة محمدًا وصحبه ومن فقدنا من الأحبة.
رابط المقالات على مدونات الجزيرة: