العلم والأخلاق
العلم في الإسلام لا ينفصل ولا ينفصم عن الأخلاق بحال من الأحوال، لأن كل منهما يكمل الآخر، فالعلم يهذب النفس ويسمو بها، والأخلاق تضبط العلم وتقوده في مساره الصحيح لخدمة البشرية والتخفيف من معاناتها. والعلم في الإسلام أنتج حضارة عالمية كانت رحمة للعالمين وآثارها الروحية والمادية ما زلت شاهدة على عظمة وإنسانية هذه الحضارة. يقول أحمد شوقي: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم ويقول الشاعر: والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخــلاق
والمسلم لا يتكبر ولا يغتر بعلمه مهما أوتي من العلم، لأنه يعلم قول الله عز وجل: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} سورة الإسراء: 85. وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِتَصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ. فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَهُوَ فِي النَّارِ». والإمام الشافعي رحمه الله كان يقول: كلما أدبني دهري أراني نقص عقلي وكلما ازددت علماً زادني علماً بجهلي والمسلم لا يكتم علماً نافعاً، وإنما يعلمه لغيره. فعن عثمان رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«خيرُكم من تعلم القرآن وعلمهُ». صحيح البخاري: 4907. وكاتم العلم إن لم يتب مطرود من رحمة الله عز وجل يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سورة البقرة:159-160. والرسول صلى الله عليه وسلم توعد كاتم العلم بالعذاب في الآخرة فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:« مَنْ سُئِلَ عن عِلْمِ عَلِمَهُ ثم كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ». سنن الترمذي: 2719، قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ حديث حَسَنٌ. ومن الحكمة عدم كتمان العلم، لأن العلم يزداد بالسخاء.
والأخلاق هي صمام أمان للعلم والعلماء، وهي التي تضمن عدم انحرافه عن أهدافه ومقاصده السامية وتعصم العلماء من الشطط والزلل وانفصال العلم عن الأخلاق يؤدي إلى وقوع كوارث بيئية لا يمكن الحد من تأثيراتها فيما بعد. ونتيجة انفصال العلم عن الأخلاق في الغرب انطلق المارد الكامن في نفوس العلماء في الغرب ليبدع في إنتاج الأسلحة التقليدية المدمرة ويوظف العلم في إنتاج الأسلحة الفتاكة كالأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية ليخرب ويدمر ويعيث في الأرض فساداً ويهلك الحرث والنسل. وآثار القنبلة النووية التي ألقيت على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين والأسلحة الكيماوية التي استخدمتها الولايات المتحدة في حربها ضد فيتنام ما زالت شاهدة على ذلك. والآثار الرهيبة لاستخدام اليوانيوم المنضب في البوسنة والهرسك وفي العراق والتلوث البيئي وانتشار مرض السرطان يشهد على التوظيف الخاطيء للعلم في الحروب القذرة التي تشنها القوى الكبرى ضد المدنيين الأبرياء وضد البيئة. والغرور والعجب الذي أصاب العلماء في الغرب أدخلهم في مجالات محظورة ومحرمة كاللعب في الجينات البشرية، ومحاولات استنساخ البشر والحيوانات وعمليات التلقيح الصناعي والاحتفاظ بالحيوانات المنوية، وغيرها من الأنشطة المشبوهة التي يوظف فيها العلم والتقنيات الحديثة.
ومن أخلاقيات العلم في الإسلام وقوف العالم عند ما يعلمه، وعدم الإفتاء في أي مسألة من المسائل بغير علم، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحرجون من الفتيا وامتنعوا عنها في كثير من الأحيان، والإمام مالك رحمه الله والذي قيل فيه ” لا يفتى ومالك في المدينة” سُئل عن أشياء كثيرة فقال: لا أعلم. والطامة الكبرى التي أصابت المسلمين في هذ العصر التجرؤ على الفتيا والتصدي لها من قبل أناس لا علم لهم ولا خلاق ولا طاقة لهم بها.
* المصدر: كتاب الإسلام والنهضة العلمية، محمد إبراهيم خاطر، دار ابن الجوزي، 2012م