العلم والإيمان
نحن أمة العلم والقرآن والفصاحة والبيان، ونحن أمة كانت أول كلمة نزلت في كتابها العظيم الذي تتعبد بتلاوته في الليل والنهار هي كلمة (اقرأ)، ومع ذلك صرنا في ذيل الأمم والشعوب في كل المجالات، وذلك لأننا لم نفقه أول وأبسط كلمة في هذا الكتاب العظيم ولم نضعها في حيز التطبيق، فتكالبت علينا الأمم والشعوب وصرنا مستهلكين لحضارة وعلوم الآخرين بعد أن كنا سادة ومنارة للعالم بأسره في شتى مجالات الحياة. ومن الأمور التي نجح فيها الاستعمار ونجح فيها أعداء الأمة العمل على الفصل بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية، وهذا الفصل وبعدنا عن منهج الله عز وجل هو سبب التخلف والضعف الذي نعيش فيه.
والحقيقة الناصعة البياض هي أن العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية هي علاقة تكامل لا تضاد، فالعلم هو الطريق المؤدية للإيمان والموصلة إلى الخالق عز وجل وهي حقيقة يلفتنا اليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة. يقول الله عز وجل:{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} سورة فاطر: 28. ورد في تفسير بن كثير:” قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: “إنما يخشى الله من عباده العلماء” قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً, وأحل حلاله وحرم حرامه, وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب, ورغب فيما رغب الله فيه, وزهد فيما سخط الله فيه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث, ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية, وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري: معناه أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية, وإنما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع, فإنما هو الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين, فهذا, لا يدرك إلا بالرواية, ويكون تأويل قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله, عالم بأمر الله, وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله, وعالم بأمر الله, ليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض, والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض, والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل”.
والفصل بين العلوم الشرعية والعلوم التطبيقية أدى إلى حدوث فجوة وإلى حدوث انفصال بين عقيدة وأخلاق الإنسان المسلم وبين سلوكه اليومي وتعامله مع أخيه المسلم وتعامله مع غير المسلمين وتعامله مع الحيوان والنبات وحتى مع الجمادات. وأذكر هنا موقفاً طريفاً في توظيف العلم والحقائق العلمية في الدعوة إلى التكافل الاجتماعي، ففي إحدى المحاضرات ونحن في السنة الثالثة بكلية العلوم قسم الكيمياء كان الأستاذ الدكتور عادل منصور أستاذ الكيمياء العضوية بكلية العلوم جامعة الزقازيق يحدثنا عن بعض التفاعلات الكيميائية، وكيف أن الإلكترونات تنتقل من المكان الغني بالإلكترونات إلى المكان الفقير في الإلكترونات فقال لنا:” انظروا حتى الذرات تعرف معنى التكافل الاجتماعي؛ أما الكثير من البشر فلا يعرفون هذا المعنى”. ومن هنا تأتي أهمية ربط العلوم الطبيعية بمبادئ وقيم الشريعة الإسلامية، وهذا الربط سيسهم بلا شك في تأصيل هذه المبادئ والقيم. واغترار الإنسان بعقله وعلمه هو نقطة البداية في الطريق المؤدية إلى الهلاك والدمار والخراب، فالعقل البشري له حدود يجب أن يتنهي عندها وأن يدرك وظيفته في هذه الحياة وهي أن يقود الإنسان إلى الإيمان بالله عز وجل، فبالعقل يدرك الإنسان أسرار العظمة في الكون الذي أبدعه الله عز وجل وفقاً لنواميس وسنن لا تتبدل وأن الله عز وجل لم يترك في الكون مجالاً لحدوث الصدفة فكل شيء مخلوق بقدر ومخلوق لحكمة يعلمها الله عز وجل يقول تعالى:{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} سورة القمر: 49.
والإنسان هو الخاسر الوحيد والأكبر في تحدي الذات الإلهية بما وهبه الله عز وجل من عقل وعلم، لأنه يتحدى الله عز وجل بشيء من خلقه. يقول الله عز وجل:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج: 73-74. ولذلك يجب ألا يغتر الإنسان بعقله وبالإنجازات التي حققها العلم والتي كانت ضروباً من الخيال في الماضي، فالله عز وجل هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم وهو الذي هداه لكل الاكتشافات العلمية التي توصل إليها. يقول الله عز وجل:{ اقْرَأْ باسم َرَبُّكَ خَلَقَ* خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} سورة العلق: 1-5. .