رحم الله شيخنا العلامة يوسف القرضاوي، فارس الدعوة، وأسد المنابر الهصور، وعلم الوسطية، وفقيه العصر، والمدافع عن قضايا الأمة، وجزاه الله خير الجزاء على ما قدم للإسلام والمسلمين.
قبل أيام رحل عن دنيانا ذلكم العالم المخلص في دعوته لربه، والصادق مع نفسه ومع غيره، في زمان ساد فيه النفاق، وعلت فيه أصوات المنافقين والأفاقين من علماء السلطة المسبحين بحمد السلاطين، والذين باعوا دينهم بعرض زائل من الدنيا، فخسروا الدنيا والآخرة، ومقتهم الناس ولفظهم التاريخ.
ولو أراد شيخنا الجليل منصبًا أو سعى لدنيا لنال ما أراد وزيادة، ولكنه آثر الدعوة إلى الله بعيدًا عن ألاعيب الساسة وضغوطات العمل الرسمي، وجعل المضايقات التي تعرض لها منذ أن كان شابًا في سبيل الله، وجعل السجن والاعتقال لسنوات بسبب الدعوة تقربًا إلى الله عز وجل.
والعلامة يوسف القرضاوي كان ذلكم العالم الثابت على الحق في زمن عز فيه قول الحق، وغاب فيه الناصح الأمين، وآثر فيه الكثيرون السلامة والنجاة بأنفسهم، فصمتوا على الجور والظلم والطغيان، وسكتوا عن المهانة والذل وكانوا كالشياطين الخرس.
والعلامة القرضاوي رحمه الله عالم فريد ومتفرد في زمانه وأوانه بفصاحته وبيانه وبصدقه وشجاعته وأمانته وإخلاصه، عالم طلابه ومحبيه يملؤون جنبات العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، عالم طاف البقاع والأسقاع داعيًا إلى الله عز وجل.
والدكتور القرضاوي عالم حاز كل ما يجب أن يكون عليه العلماء والدعاة إلى الله من الزهد والتقوى ومن الورع والخشية، ومن العلم الغزير في الفقه والشريعة، وفي الأدب وفي الشعر، وفي الإلمام بعلوم العصر ومستجداته، ومن رجاحة العقل وسداد الرأي، ومن التواضع لله عز وجل وعدم التكبر على الناس ومخالطتهم والصبر على أذيتهم وتحمل إساءتهم.
والشيخ القرضاوي رحمه الله عالم جعل وسطية الإسلام منهج حياة، ودعا إليها مخلصًا في كل خطبه ولقاءاته وكتاباته وحواراته، وهو عالم دعا إلى السماحة في التعامل وإلى التسامح مع الآخرين، ودعا إلى الحوار بين الحضارات ولم يدع يومًا إلى العنف أو التشدد أو صراع الحضارات، وجعل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسماحته ورفقه ولينه نصب عينيه ونورًا ونبراسًا لطريقه.
والعلامة القرضاوي عالم أعادنا إلى زمن العلماء الأفذاذ الذين لا يهابون أحدًا من المخلوقين مهما علت مكانتهم وسمت منزلتهم، ومهما طغوا وتجبروا، عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”أفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر”.
عالم ذكرنا بشجاعة العالم سعيد بن جبير، وبقوة شيخ الإسلام ابن تيميه وثباته على الحق، وذكرنا بمواقف الشيخ العز بن عبد السلام التي خلدها التاريخ.
إنه عالم لا يخش قول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ولم يمالئ يوماً حاكمًا أو محكومًا وجعل مرضاة الله هي هدفه وغايته في هذه الحياة، عالم أحبه واحترمه الجميع، وشهد له الجميع من العرب والعجم ومن الأصدقاء والأعداء، والفضل ما شهدت به الأعداء.
والعلامة القرضاوي عالم ثائر تأخذه الحمية دفاعًا عن دينه ومعتقداته ودفاعًا عن وطنه ومقدساته، ولو شاء لأراح نفسه من هذا العناء والتعب، ولكنه آثر حب الدعوة إلى الله وحب الجهر بكلمة الحق حتى ولو أغضبت الكثيرين.
والشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله عالم جليل أنصفه الغربيون من أنفسهم وأساء إليه بعض من بني وطنه وبعض من أبناء أمته التي طالما دافع عن أراضيها السليبة وحقوقها المغتصبة وبيضتها المستباحة وحريتها المفقودة وكرامتها المهدرة.
وهو عالم حمل بين جنبيه هم وطنه وهم بني وطنه، وحمل هموم وآلام إخوته في العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه الذين يتعرضون للقتل والتشريد والظلم ولا يجدون عونًا ولا نصيرًا إلا الله عز وجل.
والقرضاوي رحمه الله عالم ذو مكانة عالية وذو شرف رفيع، ودولة قطر المضيافة شعبًا وحكومة كما عهدناها دائمًا وطنًا وبيتًا ثانيًا وصدرًا رحبا لكل المضطهدين من المصلحين ودعاة الخير والسلام حق لها أن تفخر بأن شيخنا الجليل -رحمه الله- اتخذ منها موطنًا فكرمته وأجلته وأنزلته المكانة التي تليق به وبأمثاله من العلماء المخلصين.
وبعد رحيل ذلكم العالم الجليل ينبغي أن نتخذ منه جميعًا وبخاصة العلماء والدعاة المثل والقدوة في الثبات على العقيدة والدين، والالتزام بمبادئ الإسلامية السمحة، وفي الجهر بكلمة الحق وعدم الخوف إلا من الله عز وجل، وفي اتخاذ مبدأ الوسطية في الإسلام منهجًا للتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين وجعله شعارًا للحياة.
محمد خاطر
المشرف العام