* الأسرة في الإسلام
الأسرة في اللغة هي:”الدِّرْعُ الـحصينة”[1]، وهي كذلك في الواقع، لأنها تحمي أفراد الأسرة من الضياع والانحراف، وتوفر لهم الأمن والاستقرار.
” والأسرة في الاصطلاح: الجماعة الأولى التي يتعامل معها الطفل والتي يعيش معها السنوات التشكيلية الأولى من عمره، فيترعرع مقلداً أبويه في عاداتهم وسلوكهم، ويخضع لنمط من التربية والبناء في سنواته الأولى”.[2]
والأسرة في الإسلام لها منزلتها الرفيعة ومكانتها السامية ولها كيانها الخاص، ولذلك كان الإسلام حريصاً عليها ومحافظاً على كل ما يضمن بقاءها واستمراريتها. يقول الله عز وجل عن رابطة الزواج: { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}. سورة النساء الآية: 21.
” والأسرة في الرؤية الإسلامية فطرة وسنة اجتماعية يؤدي الإعراض عن الالتزام بأحكامها الشرعية وآدابها إلى انفراط عقد المجتمع وانهياره، فهي مؤسسة طبيعية تراحمية تحكمها قيم العفو والفضل والتقوى، وليست مؤسسة اصطناعية نشأت مع تطور الرأسمالية لتحقيق تراكم الثروة من خلال نظام الإرث كما يذهب الماركسيون، ولا هي ذات طبيعة صراعية تنافسية تخضع لعلاقات توازن القوى كما يذهب التحليل الاجتماعي الليبرالي”.[3]
” والإسلام أولى الأسرة عناية كبيرة، حيث جاء بنظام متكامل للأسرة، واهتم اهتماماً كبيراً برعايتها لما لها من أهمية بالغة في تكوين الشخصية الإسلامية للأولاد، نرى هذه العناية من خلال التشريعات والتوجيهات التي تتناول شؤون الأسرة، فهي تحث على تهيئة الاستقرار لهذه الأسرة التي ينشأ فيها الطفل لينشأ في جو هادئ، وظروف ملائمة تساعده في الاستقرار على الفطرة السليمة”.[4]
وحرص الإسلام على أن تقوم الأسرة على الصلاح، ووضع الأسس والضوابط التي تقوم عليها منذ نشأتها، بل وحتى قبل أن تنشأ، فكان الأمر بأن يحسن كل من الرجل والمرأة اختيار شريك الحياة. فالزوج والزوجة هما اللذان يشكلان نواة هذه الأسرة ويقومان بتربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة صالحة والوظيفة التربوية للآباء والأمهات لا تعدلها وظيفة أخرى في الحياة والتقصير في أداء هذه الوظيفة هو سبب كل فساد يطرأ على المجتمع.
والعلاقة بين الزوجين قائمة على المودة والحب من الزوجة والرحمة والعطف من الزوج والمودة بين الزوجين أعم وأشمل من الحب لأن الحب قد لا يدوم لسبب أو لآخر. يقول الله عز وجل عن نوعية العلاقة الزوجية: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. سورة الروم الآية : 21.
والزواج علاقة قائمة على الـتأبيد وليست محددة بوقت من الأوقات، فالهدف من الأسرة في الإسلام هو تحقيق الاستقرار النفسي والجسدي لكل من الزوج والزوجة وتحقيق التواصل بين الأجداد والآباء والأبناء وتوطيد العلاقات بين أفراد المجتمع عن طريق النسب الذي يجمعهم وبين العائلات وبعضها البعض عن طريق المصاهرة.
يقول الله عز وجل: { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. سورة النحل الآية:72.
ويقول تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}. سورة الفرقان الآية : 54.
والإسلام أولى الأسرة اهتماماً عظيماً حتى قبل أن تنشأ، فدعا الرجل الى أن يحسن اختيار الزوجة، ودعا المرأة ووليها الى أن يحسنوا اختيار الزوج. ففي مجال اختيار الزوجة حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على اختيار ذات الدين والخلق وهذا لا يمنع أن تكون جميلة أو غنية ولكن الأصل هو اختيار ذات الدين. فعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: « تُنكَحُ المرأة لأَربعٍ: لمالها، وَلِحَسَبِها، وَجَمالِها، ولدِينها، فاظفَر بذاتِ الدِّينِ ترِبَتْ يَداك ». (1) صحيح البخاري: 4970
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم». (2) سنن النسائي: 3229
والرسول صلى الله عليه وسلم حث على زواج الأبكار، فعن جابر رضي الله عنه قال: « قال لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هل نَكحتَ يا جابر؟ قلت: نعم. قال: ماذا، أبِكراً أم ثيِّباً؟ قلت: لا، بل ثَيّباً. قال فهلاَّ جاريةً تُلاعِبُك. قلت: يا رسولَ الله، إِنَّ أبي قُتلَ يومَ أحدٍ وتركَ تسعَ بنات كنَّ لي تسعَ أخوات، فكرهت أن أجمعَ إِليهنَّ جاريةً خَرقاءَ مثلهنَّ، ولكن امرأة تمشطُهنَّ وتقومُ عليهن. قال: أصبت َ». (3) صحيح البخاري: 3964
وعن المغيرة بن شعبه رضي الله عنه قال: « خطبت امرأة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظرت إليها؟ قلت : لا فقال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما». مسند الإمام أحمد: 17811
أحرى: أي أن ذلك جدير بأن يديم العشرة والمودة بينكما.
وفي مجال اختيار الزوج دعانا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نختار لأخواتنا ولبناتنا صاحب الدين والخلق، لأنه إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». سنن ابن ماجه: 2024.
وبين الإسلام دور ومسؤولية كل فرد من أفراد الأسرة ووضع الضوابط وحدد الحقوق والواجبات التي تصون الأسرة وتحفظ كيانها. فالقوامة في البيت للرجل يقول تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}. النساء الآية : 34.
والرجل له حقوق عظيمة على المرأة منها حسن المعاشرة والطاعة في المعروف فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ولو كنتُ آمِراً أَحَداً أ َنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ المرأةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها وَلَوْ أَمرها أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَصْفَرَ إلى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أسود إلى جبل أَبْيَضَ كانَ يَنْبَغِي لها أَنْ تَفْعَلَه ُ». مسند الإمام أحمد: 24078 .
ومن حقوق الرجل على زوجته ألا تدخل في البيت إلا من يرضاه وألا تصوم تطوعاً وهو حاضر إلا بإذنه، وأن تحفظه في نفسها وعرضه وماله. وللمرأة حقوق بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « استوصوا بالنساء فإن المرأة خلق من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء» مسند الإمام أحمد: 24078
وعلى الزوج أن يوفر لزوجته السكن الملائم والطعام والكسوة، فعن حكيم ابن معاوية عن أبيه: « أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج؟ قال: تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت». مسند الإمام أحمد: 19673 .
وينبغي على الزوج أن يكرم زوجته وألا يهينها أو يؤذيها لا في نفسها ولا في أهلها بقول أو فعل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً. إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَر َ” أَوْ قَالَ:«غَيْرَهُ». صحيح مسلم: 3603 .
وساوى الإسلام بين الزوج والزوجة في الحقوق والواجبات يقول الله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}. سورة البقرة الآية: 228.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها: « ان النساء شقائق الرجال». سنن الترمذي: 113 .
ويقول حبر هذه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ” والله إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي”.
وللأولاد حقوق على آبائهم، ومنها أن يحسنوا اختيار أمهاتهم، وأن يحسنوا اختيار أسمائهم، وأن يعلموهم شيئاً من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وأن يحسنوا تربيتهم وينفقوا عليهم على قدر الاستطاعة.
وعلى الأبناء واجبات تجاه الآباء والأمهات وهي طاعتهم إلا في معصية، والإحسان إليهم وحسن الصحبة والعشرة ولين الجانب. يقول الله عز وجل: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. سورة الإسراء: 23-24 .
ويخطيء من يظن أن بر الوالدين ينتهي بموتهما، فعن أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، قالَ: « بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجلٌ مِنْ بَنِي سَلَمةَ فقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرَهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا. قال: نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا». سنن أبي داود: 5137
[1] إبن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي.
[2] هداية الله أحمد الشاش، موسوعة التربية العملية للطفل، دار السلام – مصر، الطبعة الثالثة: 1429هـ – 2008م، ص87.
[3] هبة رؤوف عزت، المرأة والدين والأخلاق، دار الفكر – دمشق، الطبعة الأولى: رجب: 1421هـ – أكتوبر:2000م، ص179.
[4] ناصر بن عبد الله التركي، الشخصية ومنهج الإسلام في بنائها ورعايتها، جامعة الإمام محمد بن سعود، سلسلة الرسائل الجامعية (59)، الطبعة الأولى: 1426هـ – 2006م، ص272.
* المصدر: كتاب الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة، محمد إبراهيم خاطر، دار ابن الجوزي، 2012م