قالوا.. نظام إقليمي عربي
د. عبد الحسين شعبان
لايزال موضوع الملف النووي الإيراني يثير قلق العديد من البلدان العربية، لاسيّما في ظل غياب نظام إقليمي عربي فاعل، بحيث يشكل معادلاً نوعياً للتوازن والاستقرار في المنطقة. ولكننا دائماً نقول ماذا لو، مقدّمين ما نحلم به مقابل الواقع المرير. فالنظام الإقليمي العربي يعاني عقداً مزمنة، وأمراضاً تكاد تكون مستعصية، ومفارقات عجيبة غريبة، الأمر الذي يحتاج إلى تشريحه على المستوى التعاقدي (مواثيقه واتفاقاته) وعلى مستوى الفعل والأداء، فماذا يمكن القول؟
شهد النظام الإقليمي العربي تطوّرات كبيرة ومهمة على صعيد الإقليم، خصوصاً في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وغيرها، في حين أن النظام الإقليمي الذي بدا واعداً في نهاية الحرب العالمية الثانية، انحدر بشكل تدريجي لدرجة فقد الكثير من تأثيراته ومقوّماته، سواء على الصعيد السياسي، حيث لم ينجح في احتواء الحروب والصراعات المسلحة والنزاعات الحدودية، أو على الصعيد العسكري حين تم تجميد معاهدة الدفاع العربي المشترك التي أبرمت العام 1950، كما فشل في تحرير فلسطين، أو في الوصول إلى حل عادل يضمن حقوق شعبها في تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وعندما تقدّمت البلدان العربية بمبادرة تم الاتفاق عليها العام 2002 في مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت، واعتمدت مقايضة «الأرض مقابل السلام» فإن «إسرائيل» أبدت عدم الاكتراث بها، بل وقامت بإهمالها لتلك المبادرة التي ظلّت عائمة، واستمرّت في عدوانها ومشاريع استيطانها ورفضها لمشروع الدولتين.
وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ظلّت، علاقات البلدان العربية في إطار النظام الإقليمي محدودة ومتعثّرة في الكثير من الأحيان، بل تخضع لسياسات وردود فعل وارتيابات من جانب بعضها ضد البعض الآخر، وعلى المستوى الصحي والتربوي والبيئي والعمالة والمواصلات والقوانين ومكافحة الجريمة المنظمة والفساد والاتجار في البشر وغسل الأموال وتجارة المخدّرات والهجرة، فإن ما تحقّق حتى الآن هو أقل من مستوى الطموح بكثير، في حين أن العالم تطوّر بشكل كبير في هذه الميادين، ولاسيّما على صعيد النطاق الإقليمي من خلال تعاون فعّال لمصلحة الشعوب.
جرت في عالم اليوم تحوّلات كبيرة وعميقة بفعل منظومة القيم الجديدة، أو التي تعزّزت في العقود الثلاثة الماضية، لاسيّما في ميدان احترام الحقوق والحرّيات، إضافة إلى أن العولمة كان لها دور كبير في التقارب والتواصل من خلال الثورة العالمية – التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية «الديجيتال»، بغض النظر عن وجهها السلبي، في حين ظلّ العالم العربي متباعداً، بل ومتناحراً، بما فيه، بين دول جوار يجمعها الكثير، لكنها حتى الآن لم ترتبط بخطوط مواصلات حديثة بين بعضها بعضاً، بما فيها دول ميسورة.
إن الشعور بأهمية التوازن الدولي، خصوصاً بعد هيمنة الولايات المتحدة وتحكّمها في الأمم المتحدة، دفع دولاً عدة في أمريكا اللاتينية وفي آسيا للتقارب وتقديم المصالح المشتركة، لوضع حدّ لمحاولات الهيمنة والاستتباع والانفراد بالقرار الدولي، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، فوجود قوة مثل الصين التي هي عملاق آسيوي ومارد كبير، إضافة إلى روسيا أو الهند أو البرازيل أو غيرها من البلدان الصاعدة والتي تجتمع وتأتلف مع غيرها في إطار أنظمة إقليمية، كفيل بتغيير معادلات القوة العالمية باتجاه أكثر انسجاماً وعدالة.
كل هذه التطورات الحاصلة على الصعيد الكوني، وعلى صعيد التقارب والاتصال والتعاون وأشكال من الاتحاد، لم يقابلها معادل إقليمي عربي، وعلى العكس من ذلك، فإن نكوصاً وانحساراً أصاب النظام الإقليمي العربي، الأمر الذي يمكن تشخيصه من خلال مفارقات لا يمكن بحث النظام الإقليمي العربي بمعزل عنها منها:
المفارقة الأولى، هي ضعف مرجعية الدول، ولاسيّما ما بعدما يسمى «الربيع العربي»، حيث تراجعت لحساب مرجعيات أخرى، يمكننا القول إنها مرجعيات ما قبل الدولة، دينية أو طائفية أو عشائرية أو جهوية، وهذا بدوره انعكس على النظام الإقليمي العربي. وإذا كان انهيار بعض الشرعيات القديمة قد أصبح أمراً واقعاً، فإن العديد من البلدان التي حصلت فيها تغييرات لم تستطع حتى الآن إقامة شرعياتها الجديدة، ولا تزال الفوضى والاحتراب يضربان تماسك مجتمعاتها ودولها، التي لم تستقر ولم تتلمس طريق تطورها وتنميتها اللاحقة.
المفارقة الثانية، هي الأمية المتفشية في عالمنا العربي، التي لا تزال تشكل همّاً إقليمياً عربياً، حيث تبلغ أكثر من 71 مليون عربي من مجموع 300 مليون، وهذه هي الأمية الأبجدية، وليس الأمية المعرفية والثقافية والعلمية التكنولوجية، وإن معدّل القراءة لا يتجاوز نصف صفحة سنوياً، قياساً بعشرة كتب في بعض البلدان المتقدمة.
المفارقة الثالثة، هي استشراء التعصّب الديني والتطرّف المذهبي الذي قاد إلى انقسامات حادة، وأثّر في المواقف السياسية لعدد من البلدان، حيث توزعت إلى محاور إقليمية عربية وغير عربية، بحيث أضعفت التعاون، فضلاً عن الوحدة في المواقف، لاسيّما إزاء عدد من المشتركات الأساسية.
وإذا كان الدين حقيقة باهرة ولا بدّ لمن يريد إحداث تغيير في المجتمع، فضلاً عن تحقيق العدالة الاجتماعية، دراسة الظاهرة الدينية التي لا غنى عنها سواء لتأثيراتها المجتمعية أو لفهم تشابكاتها، خصوصاً وقد ارتبطت بالطائفية والإرهاب والعنف، حيث وجد التكفير والتأثيم والتجريم طريقه إلى المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، وكان وراء الموجة التي تفشت في العالم العربي، وهكذا بدأنا نسمع عن دين سيئ وآخر جيد، وطائفة سلبية وأخرى إيجابية، وجناح ديني أو مذهبي إرهابي من هذا الفريق مقابل جناح آخر مضاد، وبالطبع فإن المسألة ليست بمعزل عن امتدادات إقليمية خارجية، لعبت دوراً في صبّ الزيت على النار وتسعيرها لكي تبقى مستمرة.
المفارقة الرابعة، هي تراجع النخب العربية التي استقال بعضها عن دوره التنويري أو انساق مع الريح الطائفية العاتية، أو من الموجة التغريبية، أو انكفأ على نفسه، خصوصاً في ظلّ شحّ الحريات وغياب مبدأ سيادة القانون وعدم احترام حقوق الإنسان وضعف دور القضاء المستقل، فضلاً عن مناهج تربوية تحرّض على التمييز والعنصرية، وتبث ثقافة استعلائية تفريقية، يلعب الإعلام دوراً أساسياً في الترويج لها، إضافة إلى ضعف المجتمع المدني، فضلاً عن بعض التداخلات الخارجية للنفاد إليه أو للتأثير في بعض أطرافه لإحداث التصدّع المطلوب.
المفارقة الخامسة، هي صعود الموجة الإرهابية العالمية وتأثيرها سلباً في العلاقة بين أطراف النظام العربي الإقليمي، حيث الترابط وثيق بين العامل الدولي والعامل الإقليمي، وفي داخل كل دولة، لاسيّما وأن الجهات المتنفّذة في المجتمع الدولي، أخذت تتحرك تحت عناوين «الحرب الوقائية» أو «الحرب الاستباقية»، وهي ليست سوى استحداثات جديدة لنظرية المجال الحيوي ومصالح الدولة القومية في ظل قواعد القانون الدولي التقليدي قبل الحرب العالمية الأولى، وتجسّد ذلك بعدد من القرارات الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية الإجرامية العام 2001. ومن أبرزها القرار 1373 الصادر في 28 سبتمبر/أيلول 2001 الذي يعتبر من أخطر القرارات الدولية التي ترخّص استخدام القوة تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، وأحياناً من دون الرجوع إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن وما يسمى بالشرعية الدولية.
المفارقة السادسة الترابط والتأثير السلبي في النظام الإقليمي العربي، من جانب قوى الإقليم المحيط، خصوصاً بوجود «إسرائيل» وعدوانها المتكرّر على الأمة العربية، كما جرت الإشارة إليه، إضافة إلى الدور الإيراني السياسي القومي الفارسي، ذي المسحة المذهبية، إضافة إلى المشروع القومي التركي ذي المسحة التاريخية العثمانية.
وإذا لم يستطع النظام العربي الإقليمي تجاوز ذلك بإعادة نظر جديّة في أسلوب عمله ما يستجيب للتطور العالمي، فإن ما بقي من نظام إقليمي عربي قد يتفكّك ويفقد أي تأثير له، خصوصاً بازدياد شقّة التباعد والخلاف، وتحتاج المعالجة إلى البدء من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، ومن أدنى القضايا وصولاً إلى أرقاها.
ولا يمكن بناء نظام إقليمي عربي اليوم من دون تعزيز وتقوية الدولة الوطنية، إذْ إن أي إضعاف لها سيعني إضعافاً للنظام الإقليمي. ويقوم هذا الأخير على دول ممثلة بحكوماتها، لتتفق على أهداف مشتركة ولتقيم علاقات منهجية ومؤسسية انسجاماً مع مصالحها، وهذا يحتاج إلى دور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني، بحيث تكون قوة رقابة ورصد من جهة، وقوة اقتراح وشراكة من جهة أخرى، وليس قوة احتجاج فحسب.
المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية، الأربعاء، 24/6/2015