وسائل تحقيق الرفاهية *
هناك وسائل مادية كثيرة لتحقيق الرفاهية ومنها: بذل المزيد من الجهد وزيادة معدلات الإنتاج والاهتمام بالبحث العلمي وبالابتكارات التي تذلل العقبات أمام الإنسان وتجعل حياته أكثر سهولة والتفنن في كل شيء بدءاً بالطعام والشراب وانتهاء بوسائل الرفاهية كالسيارات والطائرات وأدوات التسلية وغيرها وهذه هي الوسائل المادية لتحقيق الرفاهية. فهل نجحت هذه الوسائل في تحقيق السعادة للإنسان وشعوره بالرضا؟
الواقع الذي يعيشه المرفهون والمترفون في الدول المتقدمة يقول إن هذه الوسائل جميعاً فشلت في إسعاد الإنسان وأفقدته سلامه الداخلي بل وأفقدته الرغبة في الحياة فلجأ الكثيرون ممن يعيشون في هذه الدول إلى الانتحار حتى يتخلصوا من الصراعات الداخلية التي يعانون منها وهذه الصراعات تنشأ نتيجة مخالفة الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها ونتيجة البعد عن منهج الله عز وجل يقول تعالى:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }. سورة طه: 124-126.
وفي مقابل هذه الحياة الضنك التي يحياها الإنسان بعيداً عن منهج الله عز وجل نجد الحياة الطيبة التي ينعم بها المؤمنون في رحاب الشريعة يقول الله عز وجل:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }. سورة النحل: 97.
والوسائل المادية التي لجأ إليها الغرب لتحقيق الرفاهية كانت سبباً مباشراً للشقاء الذي يعاني منه الغربيون بل والعالم بأسره فزيادة معدلات الإنتاج وما يتطلبه من زيادة معدلات استهلاك الطاقة أدى إلى الإخلال بالتوازن البيئي والكرة الأرضية مقبلة على مصير مجهول بسبب التلوث البيئي وزيادة معدلات انبعاث الغازات الدفيئة التي تسببت في حدوث ظاهرة الاحتباس الحراري وما نتج عنها من سيول وفيضانات في بعض الأماكن وتصحر وجفاف في أماكن أخرى.
والعولمة التي سعت إلى تنميط الإنسان نجحت في تحويله إلى كائن استهلاكي يَستهلك ويُستهلك في نفس الوقت والرغبة في استهلاك المتاح وغير المتاح أصبحت عبئاً نفسياً وعذاباً يومياً يعاني منه ملايين البشر في العالم.
هذا ما أفضت إليه الوسائل المادية لتحقيق الرفاهية وهو ما يدعونا إلى العودة إلى النبع الصافي لكي ننهل منه وهو المنهج الرباني الذي نزل لسعادة البشرية في الدنيا والآخرة والذي يدلنا على الوسائل الحقيقية لتحقيق الرفاهية والوصول إلى حالة الرضا والسلام مع النفس ومع الآخرين بل ومع جميع المخلوقات يقول الله عز وجل:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. سورة الأعراف: 96.
والرسول صلى الله عليه وسلم جمع الأركان الأساسية للرفاهية في حديث واحد وهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ سَلَمَةَ بنِ عُبَيْدِ الله بنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ، عن أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحبةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله رضي الله عنه:« مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سِرْبِه مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». سنن الترمذي: 2384.
الركن الأول هو الأمن، فالإنسان لا يمكن أن يعيش في رفاهية حتى ولو توفرت له كل أسباب ووسائل الراحة في غياب الأمن. والله عز وجل امتن على قريش بنعمتين عظيمتين وهما الأمن من الخوف والإطعام من الجوع، يقول الله عز وجل:{ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف ِ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}. سورة قريش: 1-4.
والإسلام حرص على شيوع الأمن والسلام في المجتمع ونهى عن كل ما ينغص هذا الأمن ويهدده فعَنِ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ. حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ». صحيح مسلم: 6618.
وعن جَابِرٍ رضي الله عنه:« أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولاً». سنن أبي داود: 2589.
والركن الثاني من الأركان الأساسية للرفاهية هو الصحة لأن المرض من الأشياء التي تنغص وتكدر العيش وتحرم الإنسان من العيش في رفاهية ورغد ولذلك حرص الإسلام على الوقاية من الأمراض ومنع حدوثها بكل الوسائل المتاحة وأولها الحرص على النظافة العامة والوضوء يعتبر بمثابة المطهر اليومي الذي يحمي المسلم من مسببات الأمراض ويزيل عنه الأوساخ الخارجية التي تعلق بجسمه، بل ويزيل الأدران الداخلية المتمثلة في الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ (أَوِ الْمُؤْمِنُ) فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذُّنُوبِ». صحيح مسلم: 530.
والركن الثالث من أركان الرفاهية هو توفر القوت الضروري وعدم حاجة الإنسان للآخرين وفي هذا الشأن ذهب الإسلام بعيداً جداً فقد حرص على توفير حد الكفاية للإنسان وليس حد الكفاف لأنه يسعى لحفظ الكرامة الإنسانية وليس إلى مجرد توفير الطعام والشراب. وفي ذلك يقول الشاعر عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل
فاسقني بالعز كأس الحنظل
وبذلك سبق الإسلام كل التشريعات والنظم الوضعية التي فشلت في توفير الرعاية الصحية للمواطنين وفشلت في توفير الأمن والحفاظ على السلام داخل المجتمع وفشلت في توفير القوت الضروري للمواطنين والنظم التي نجحت في توفير القوت الضروري للمواطنين لم تقدمه لهم بالمجان وكان الحصول على هذا القوت على حساب كرامتهم وعلى حساب حرياتهم الأساسية.