تركيا من الدول الصاعدة على مستوى العالم، وحضورها وتأثيرها على الصعيد العالمي يزداد يومًا بعد يوم، والسر في ذلك يرجع إلى نجاح تركيا في امتلاك وتوظيف مقومات القوة الناعمة التي فتحت الطريق أمامها، ومكنتها من الوصول والتأثير في مناطق كثيرة في العالم.
تركيا بين القوة الصلبة والقوة الناعمة
القوة الصلبة (Hard power)، تعني استخدام القوة العسكرية، والاقتصادية، للتأثير على دول أخرى، أو لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية، بينما القوة الناعمة (Soft power) هي التي تحقق ذلك عن طريق الدبلوماسية، والحوار الحضاري، والتاريخ، والعلاقات المشتركة، وتقوم القوة الناعمة لأي دولة على الثقافة والقيم والسياسات التي تتبناها، والسياسة الخارجية التي تتبعها، والمساعدات الإنسانية التي تقدمها، والعلامات التجارية التي تمتلكها.
وخلال الأزمة الخليجية الأخيرة مزجت تركيا بين أدوات القوة الناعمة والصلبة في تعاطيها مع تلك الأزمة، فتحالفت عسكريًا مع قطر وقامت بإنشاء قاعدة عسكرية على أراضيها، وسعت دبلوماسيًا لحل الأزمة مع الأطراف الأخرى.
وصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، قالت في تقرير لها “إنّ النظام الحاكم في تركيا يعتمد منذ عشر سنوات دبلوماسية “القوة الناعمة” الثقافية والإنسانية والدينية؛ لتوسيع نفوذه في منطقة الشرق الأوسط، ولكنه لا يتردد في استخدام القوة، إذا لزم الأمر، من أجل الحفاظ على إنجازاته في المنطقة”.
حل النزاعات
قدمت تركيا نفسها كوسيط في العديد من النزاعات حول العالم، وبذلت الجهود لتحقيق التوافق والمصالحة في العراق ولبنان وقرغيزيا، والتعاون مع صربيا وكرواتيا من أجل السلام الدائم والاستقرار في البوسنة والهرسك، والتعاون مع باكستان فيما يتعلق بإحلال السلام والأمن في أفغانستان، والموقف التوافقي لحل مشكلة البرنامج النووي الإيراني بالطرق السلمية والحوار، وذلك بالإضافة لدور تركيا في الاجتماعات التي جرت بين الصومال وأرض الصومال، والدعم الذي قدمته لعملية السلام في جنوب الفلبين.
والوساطة الأبرز لتركيا كانت من أجل إنهاء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير 2022م، ونجحت تركيا في توقيع وتجديد اتفاقية تصدير الحبوب لأكثر من مرة بموافقة طرفي النزاع وضمان الأمم المتحدة، وجنبت العالم حدوث أزمة غذائية جراء نقص الحبوب التي تتصدر روسيا وأوكرانيا قائمة الدول المصدرة لها.
الإغاثة وتقديم المساعدات
بنت تركيا جزءًا من قوتها الناعمة على تقديم المساعدات الإنسانية حول العالم، والجزء الأكبر من هذه المساعدات يتم من خلال الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (TIKA) وهي ثالث أكبر مانح للمساعدات التنموية على مستوى العالم، وتأتي بعد كل من الوكالة الأمريكية للتنمية ونظيرتها في الصين، ومن المنظمات التركية العاملة في مجال الإغاثة وتقديم المساعدة الإنسانية منظمة الهلال الأحمر والصليب الأحمر، ومؤسسة هيئة الإغاثة الإنسانية (IHH).
ووفقًا لتقرير المساعدات الإنسانية العالمية، تصدرت تركيا الدول المانحة في العالم في عام 2018، وبلغت المساعدات الإنسانية الرسمية التي قدمتها تركيا ما يزيد على 8 مليار دولار أمريكي. والمساعدات الإنسانية التي تقدم للدول الأخرى وبالإضافة إلى ما تحققه من تعزيز للقوة الناعمة، فإنها تفتح الطريق أمام الاستثمار في هذه الدول، وتكون فرصة الدول المانحة أكبر في الحصول على حصة من المشروعات التي يتم تنفيذها في تلك الدول.
المنح الدراسية
توسعت تركيا في الآونة الأخيرة في تقديم المنح الدراسية المخصصة لبرامج البكالوريوس والماجستير والدكتوراة، وأصبحت تستقطب عشرات الآلاف من الطلاب من أنحاء العالم سنويًا، وهؤلاء بجانب دراستهم للتخصصات العلمية والأدبية يتعلمون اللغة التركية ويتعلمون الثقافة والعادات التركية، ويعودون لبلادهم كسفراء لتركيا، وهو ما يعزز حضور تركيا في الكثير من دول العالم وبخاصة في الدول العربية والإسلامية.
الاستثمارات الخارجية
تساهم الاستثمارات الخارجية وبشكل كبير في صناعة القوة الناعمة للدول، وقد سعت تركيا لتعزيز قوتها الناعمة في أوروبا وآسيا وأفريقيا من خلال الاستثمار وتمويل العديد من المشروعات في عدد من دول تلك القارات، وأصبح لها حضور اقتصادي لافت في الدول المتقدمة، وحضور تنموي بارز في الدول النامية.
وبلغ حجم الاستثمارات المباشرة التركية في الخارج 50.8 مليار دولار، وذلك بنهاية عام 2022، وانتشرت هذه الاستثمارات في 128 بلدًا ووصل عددها إلى 2033 استثمارًا.
المراكز الثقافية
سعت لتركيا لتعزيز حضورها في العديد من الدول من خلال إنشاء المراكز الثقافية واللغوية وفي مقدمتها مركز (يونس إيمره)، الذي أُسس وفقاً للقانون رقم 5653 لعام 2007، والهدف من إنشاء المركز هو التعريف بتركيا، وتاريخها، وثقافتها، وفنونها، وتعليم اللغة التركية، وتعزيز التبادل الثقافي بين تركيا والدول الأخرى.
ويعمل معهد يونس إمرة في مجال تعليم اللغة التركية لغير الناطقين بها في المراكز الثقافية التي تقع خارج تركيا، وينظم المعهد أنشطة فنية وثقافية هدفها التعريف بتركيا، ويتبع لمعهد يونس إيمره الذي أنشئ في عام 2009م ما يزيد على 60 مركزًا ثقافيًا حول العالم.
الدراما التركية
الفنون بشكل عام لها تأثير قوي في نشر الثقافات، والولايات المتحدة على سبيل المثال نجحت في تعزيز حضورها وتصدير ثقافتها للعالم من خلال الأفلام والمسلسلات والأغاني، ومن خلال هوليوود عملاق الإنتاج الفني والسينمائي في العالم، وتحتل تركيا المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وبريطانيا من حيث عدد المسلسلات التي يجري تصديرها للعالم، والطلب العالمي على العروض التركية ارتفع بنسبة 184% بين عامي 2020 و2023، والمسلسلات التركية تبث في أكثر من 170 دولة حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والشرق الأقصى وأميركا اللاتينية، وتصل إلى ما يقرب من 750 مليون شخص.
والدراما التركية استطاعت أن تغزوا العالم من خلال إنتاج ضخم يمكن أن نصنفه لنوعين من المسلسلات، الأول هو المسلسلات المعاصرة العاطفية منها والاجتماعية والتي تعكس وجه تركيا العلماني والليبرالي، والانفتاح على الغرب، ويظهر ذلك في نمط الحياة، والأزياء، والعلاقات بين الجنسين.
ومن أوائل المسلسلات التي تأثر بها الكثيرون في المنطقة العربية مسلسل مهند ونور في عام 2009م، وهو ثالث مسلسل تركي يلقى رواجًا ومتابعة في العالم العربي، وعرض بعد مسلسل “سنوات الضياع”، وبعد مسلسل “إكليل الورد” الذي عرض في صيف 2007م.
والنوع الثاني هو المسلسلات التاريخية التي تعكس وجه تركيا الإسلامي من خلال تناولها للشخصيات التي كان لها تأثير كبير في تاريخ تركيا وبخاصة ما يتعلق بالإمبراطورية العثمانية، مثل مسلسل “ألب أرسلان”، ومسلسل “قيامة أرطغرل”، ومسلسل “بربروس”، ومسلسل “المؤسس عثمان”، ومسلسل “صلاح الدين الأيوبي”، ومسلسل “محمد الفاتح”، وغيرها.
المصدر: ترك برس