بعد أكثر من 470 يومًا داميًا توقفت أخيرًا الحرب الصهيونية على قطاع غزة، وحق للفلسطينيين أن يفخروا بمقاومتهم الباسلة وبصمودهم الأسطوري أمام آلة القتل الصهيونية، في ظل دعم غربي غير محدود، وتخاذل عربي وإسلامي، وصمت دولي.
فلسطين تقاوم وتنتصر
كتبنا وقلنا منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى إن “فلسطين تقاوم وتنتصر”، وهي اليوم -على الرغم من فداحة المُصيبة- تجني ثمار ذلك النصر من خلال الاتفاق على وقف إطلاق النار، والموافقة على الشروط التي وضعتها المقاومة ولم يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بدًا من الرضوخ لها.
والمقاومة الباسلة أفشلت المخططات الصهيونية، وأفسدت خطة الجنرالات في غزة، وما توعد به أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام في السابع من أكتوبر الماضي، هو ما حدث بعد أكثر من 15 شهرًا من القتل والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة في قطاع غزة، فالمقاومة أجبرت نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، بل والكيان الصهيوني برمته على توقيع الاتفاق مع حركة حماس التي كان هدف نتنياهو من الحرب هو القضاء عليها، وفي وصف ذلك يقول الشاعر:
أتظن أنك عندما أحرقتني
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
وتركتني للذاريات تذرني
كحلاً لعين الشمس في الفلوات
أتظن أنك قد طمست هويتي!
ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟
عبثا تحاول.. لا فناء لثائرٍ
أنا كالقيامة ذات يوم آت
ومن بركات عملية طوفان الأقصى أنها أعادت القضية الفلسطينية التي كان يُراد لصفحتها أن تُطوى لواجهة الأحداث من جديد، وأكسبتها تعاطفًا دوليًا حتى في الدول المساندة والداعمة لإسرائيل كالولايات المتحدة والدول الغربية.
وطوفان الأقصى أعاد الأمل للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، فقد تضمن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أجبر قادة الكيان الصهيوني على قبوله إطلاق سراح مئات السجناء الفلسطينيين وبعضهم محكوم عليه بعشرات المؤبدات، وفي اليوم الأول من الاتفاق أفرج عن 3 أسيرات إسرائيليات مقابل الإفراج عن 90 من الأسيرات والأطفال الفلسطينيين، ومن بينهم “خالدة جرار” القيادية في اللجنة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي الأسبوع الثاني أفرجت المقاومة عن 4 أسيرات مقابل الإفراج عن 200 أسير فلسطيني.
وتضمن الاتفاق انسحاب الجيش الصهيوني من القطاع وعودة سكان شمال القطاع إلى بيوتهم، ورأى العالم بأسره مشاهد عودة عشرات الآلاف من الغزيين إلى بيوتهم التي دمرها جيش الاحتلال مشيًا على الأقدام وبالمركبات وهم يحملون ما تيسر حمله من سقط المتاع، وفي ذلك أبلغ رد على دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير سكان القطاع وترحيلهم لمصر والأردن.
وفي المقابل لم يتمكن الاحتلال من إعادة مستخربيه لمستوطنات غلاف غزة، بعد أن أجبرتهم المقاومة على الرحيل منها بعد أحداث الطوفان في السابع من أكتوبر عام 2023م، والآلاف منهم باتوا يرفضون العودة.
خسائر الاحتلال الصهيوني
صحيح أن الخطب والمصاب في غزة جلل، ولكن الاحتلال في المقابل تكبد خسائر فادحة نتيجة عدوانه الغاشم على قطاع غزة والضفة ولبنان واليمن وسوريا. يقول الله عز وجل:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء: 104.
وطوفان الأقصى كان بمثابة زلزال مدمر للاحتلال، ليس على صعيد الخسائر البشرية والمادية فحسب، وإنما مثل تهديدًا وجوديًا للكيان الصهيوني، فلأول مرة منذ عقود أصبح وجود الكيان وإمكانية استمراره على أرض فلسطين محل تساؤل من الإسرائيليين أنفسهم قبل غيرهم.
وطوفان الأقصى وتداعياته أحدثا شرخًا وانقسامًا داخل الكيان المحتل، وهناك تقارير إسرائيلية تحدثت عن مخاوف من وقوع حرب أهلية داخل الكيان، والخلافات بين العسكر والسياسيين ظهرت للعلن، ونتنياهو أقال وزير الدفاع يوآف جالانت والحرب لا تزال مستمرة في القطاع.
وعقب اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حدث انشقاق داخل الحكومة الإسرائيلية، وأعلن وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” استقالته من الحكومة. وأعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي استقالته من منصبه بادئا سلسلة من الاستقالات في قيادة الجيش الإسرائيلي على خلفية ما اعتبر فشلًا في 7 أكتوبر 2023م. وستدخل استقالة هاليفي حيز التنفيذ في 6 مارس المقبل.
وفي رسالة استقالته، قال هاليفي إن “الجيش الإسرائيلي فشل في مهمة الدفاع عن إسرائيل والدولة دفعت ثمنا باهظا”.
وخسائر الكيان الصهيوني العسكرية لا تقل عن خسائره السياسية، فالمقاومة الفلسطينية الباسلة حطمت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” وقتلت المئات من ضباطه وجنوده، وأصابت الآلاف من جنود الاحتلال بعاهات مستديمة وبأمراض وعقد نفسية من الحرب، وكشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية عن حصيلة جديدة لجنودها الذين أصيبوا في جبهات القتال منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وقالت الوزارة إن قسم التأهيل التابع لها يقوم بمعالجة أكثر من 15 ألف جريح من عناصر الجيش وقوات الأمن منذ اندلاع الحرب.
ورجال المقاومة في غزة حطموا أسطورة دبابة الميركافا التي يفاخر بها الاحتلال وجعلوها خردة، وبقذائف بدائية محلية الصنع دمروا أكثر من 2000 آلية عسكرية من آليات الاحتلال التي توغلت في القطاع.
والغزيون مقاومة وشعبًا حطموا أسطورة “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، فذلك الجيش عندما عجز عن مواجهة المقاومة بتسليحها البسيط، استهدف الأبرياء وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، ودمر البنية التحتية في غزة، وقصف المساجد والكنائس والجامعات والمدارس، وخاض حربًا شعواء ضد المستشفيات وطواقمها الطبية، واستهدف المسعفين ورجال الدفاع المدني!
وطوفان الأقصى وتداعياته تسببت في خسائر اقتصادية فادحة للكيان الصهيوني، فقد تكبدت إسرائيل ما يصل إلى 125 مليار شيكل (34.09 مليار دولار) منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وتكلفة الحرب على قطاع غزة بلغت نحو 250 مليار شيكل (67.57 مليار دولار) حتى نهاية عام 2024م. وتدهورت صناعة السياحة الوافدة إلى إسرائيل بنسبة فاقت 70% خلال العام الماضي، مقارنة بـ2023م. وقطاع البناء تضرر بشكل كبير وبلغت الخسائر الأسبوعية لذلك القطاع نحو 644 مليون دولار.
وربع الإسرائيليين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، وتضرر 65% من الإسرائيليين ماليا، وهي أمور تنذر بانهيار الصمود الاجتماعي في الكيان نتيجة الحروب المستمرة التي يخوضها على أكثر من جبهة.
والكيان الصهيوني المارق والذي ضرب بجميع قرارات الأمم المتحدة عرض الحائط مثل ولأول مرة منذ قيامه أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت أوامر توقيف بحق عدد من قادته بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
وصورة الكيان الصهيوني تضررت بشدة أمام أنظار العالم، التعاطف العالمي الذي كانت تحظى به إسرائيل نتيجة سرديتها التاريخية الملفقة وادعائها للمظلومية، تحول نحو الفلسطينيين والقضية الفلسطينية التي حظيت بدعم شعبي ورسمي غير مسبوق، وشاهدنا الملايين حول العالم وهم يتظاهرون مطالبين بوقف الحرب في غزة وبالحرية لفلسطين.
وما النصر إلا من عند الله
ما تحقق في قطاع غزة -رغم الألم- هو انتصار للفلسطينيين الذين عانوا الأمرين من العدوان الغاشم للاحتلال وداعميه، ومن التواطؤ والخذلان العربي والإسلامي.
والفلسطينيون مقاومة وشعبًا ضربوا لنا أروع الأمثلة وأعطونا دروسًا في التضحية والفداء، وفي الثبات والصمود، وفي الدفاع عن الأرض وعن المقدسات.
وفي أحداث طوفان الأقصى رأينا رأي العين مصداق العديد من آيات القرآن الكريم التي كنا نقرؤها، يقول الله عز وجل:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة الأنفال: 10.