تفاحة كوبا وسلّة أمريكا
د. عبد الحسين شعبان
أثار الحديث عن إعادة العلاقات الكوبية – الأمريكية جدلاً واسعاً، فالبعض اعتبره هزيمة للامبريالية الأمريكية، التي اضطرّت في نهاية المطاف إلى التسليم بفشل خططها السابقة للإطاحة بالنظام الاشتراكي في كوبا، الذي أثبت جدارته في مواجهة التحديات الأمريكية والحصار المفروض عليه منذ خمسة عقود ونيّف من الزمان. من جهة أخرى رافقه موجة عارمة من القلق، لدى الكثير من الأوساط، خصوصاً أنها تدرك أن الولايات المتحدة لن تتخلّى عن هدفها، وهي غالباً ما تشتغل على عدد من البدائل في آن واحد، فإذا فشلت في واحد، فإن البدائل الأخرى الموازية، تبقى تعمل بقوة. وإذا كان الخيار العنفي والعسكري وسلاح الحصار قد تراجع، فإن القوة الناعمة ستأخذ طريقها لذات الهدف، وإن ارتدت قفازاً من حرير.
وإذا كانت مسألة إقامة العلاقات بين مختلف البلدان أمراً طبيعياً على مستوى العلاقات الدولية، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها الاجتماعية، فإن هذا الأمر سيكون من باب أولى بين بلدان متجاورة ويربطها الكثير من وشائج العلاقة التي تستوجب إقامة مثل هذه العلاقات، ناهيكم عن تعزيزها، لكن الأمر يتطلّب إجراءات من شأنها التمهيد لذلك، ولعلّ أول ما ينبغي البدء به هو إلغاء الحصار المفروض على كوبا بالكامل من جانب واشنطن، مثلما يتطلّب من كوبا المزيد من اليقظة والحذر من الاختراقات التي ستلجأ إليها الولايات المتحدة، خصوصاً أن الفريق الإيديولوجي المعروف باسم «تروست الأدمغة» أو «مجمّع العقول» لا يزال يعمل بحيوية منذ عهد الرئيس كيندي، لاختراق الأنظمة المعادية، وفقاً لنظرية القوة الناعمة.
وبواسطة هذه القوة يمكن مدّ الجسور التي ستعبرها البضائع والسلع والسيّاح والأفكار، وكل ما له علاقة بنمط الحياة الأمريكي، لإحداث تصدّع من الداخل، وعندها يمكن لكوبا أن تسقط بالأحضان مثل التفاحة الناضجة. وإذا ظلّت كوبا عصية أمام استخدام واشنطن «القوة الخشنة»، فإن الأمريكان سيراهنون على القوة الناعمة، بما يملكونه من طاقات وموارد وعلوم وتكنولوجيا وحرب إعلامية ونفسية، لتحقيق هدفهم.
وكان اللقاء الذي تحقق بين الرئيس باراك أوباما والرئيس راؤول كاسترو في القمة الأمريكية التي انعقدت في بنما له أكثر من دلالة، خصوصاً لجهة تطبيع العلاقات، إضافة إلى الموقف الأمريكي اللاتيني الذي يكاد يكون موحّداً من مسألة حضور كوبا ودورها، وهو الأمر الذي لم يكن بمقدور واشنطن تجاهله، لكن أوباما ذهب أبعد من ذلك حين أراد فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وهو تعبير عن فشل سياساتها السابقة لعزل كوبا.
شهد التاريخ الكوبي خلال القرن ونصف القرن الماضي عدداً من الحروب والنزاعات التي ما زال المجتمع الكوبي يستذكرها وقدّر لي أن ألحظ ذلك خلال زيارتي لكوبا، في المقهى وعلى الجدار وفي الحانة وفي الساحات والمتاحف واللقاءات والمحاضرات، حيث تتردّد أسماء الأبطال على كل لسان، ويمتاز الكوبي بشكل عام بوطنية عالية، وبالقدر الذي يتسامح فيه بنقد النظام، وأحياناً كشف بعض عيوبه ومثالبه، إلاّ أنه لا يقبل أن يكون جزءاً من الخطة الأمريكية للإطاحة به على الرغم من معارضته له.
ولعلّ أبرز الحروب التي تعرّضت لها كوبا هي:
الحرب الأولى- المتمثلة بمقاومة الاستعمار الإسباني منذ العام 1868 والتي استمرت حتى العام 1878، وقد أبدى فيها الكوبيون بسالة منقطعة النظير، وخسر فيها الغزاة الكثير من الأرواح والمعدّات دون أن يتمكنوا من فرض «سيادتهم» الكاملة على كوبا، التي ظلّت عنيدة في مواجهتهم. أما الحرب الثانية فقد ابتدأت العام 1881 واستمرت لبضع سنوات، وهي لاستكمال وتوسيع الحرب الأولى. وكانت الحرب الثالثة منذ مطلع العقد الأخير من القرن ال 19، والتي قتل فيها الزعيم الوطني خوسيه مارتيه بعد أن جاء من هايتي، والحرب الرابعة هي حرب أهلية داخلية، بين نظام كان صنيعة لواشنطن وبين حركة ثورية استطاعت إحراز النصر بعد مسيرة ظافرة من جبال السيرامايسترا وحتى هافانا التي تم دخولها بقيادة فيديل كاسترو.
أما الحرب الخامسة التي لا تزال مستمرّة فهي حرب السلطة الثورية ضد الثورة المضادة المدعومة أمريكياً، وإنْ استطاعت الثورة التقدّم بتحقيق إنجازات اجتماعية وتنموية مهمة وكبيرة، لكن حقل الحرّيات واحترام حقوق الإنسان، بحاجة إلى إعادة نظر، لاسيّما موضوع الإقرار بالتعدّدية وحرّية التعبير وحق الاجتماع والاعتقاد والتنظيم والمشاركة، فقد أدّى التضييق على هذه الحقوق في ظل الصراع المحتدم ومحاولات الغزو المستمرة، إلى استثمار الثورة المضادة، لبعض هذه الثغرات والمثالب، وهو أمرٌ لو استمرّ دون مراجعة ومعالجة إيجابية، فإنه سيؤدي إلى تفتيت القاعدة الداخلية الأساسية للثورة، خصوصاً في هذه الظروف الجديدة.
ولا يمكن لأية ثورة أن تستمر دون تطوير حرّيات الناس وحقوقهم ورفاههم وقناعاتهم، فهم المستفيدون من أية ثورة، مهما حققت لهم من مكتسبات اجتماعية، فيما يتعلق بالعمل والصحة والتعليم والضمان، ولعلّ تجربة البلدان الاشتراكية وبعض أنظمة العالم الثالث دليل على ذلك.
أما الحرب السادسة فهي الحرب ضد الحصار الأمريكي الجائر، المفروض على كوبا منذ 50 عاماً ونيّف، أي منذ العام 1960 في عهد الرئيس كيندي الذي فرض حظراً على السلاح، ثم أصبح شاملاً لجميع مرافق الحياة، ابتداءً من قلم الرصاص وحتى آخر متطلبات الحداثة، بما فيها من انتقال الأشخاص والأموال والسفر والزيارات والاتصال الثقافي والعلّمي وغيرها. وعلى الرغم من أن تخفيفاً نسبياً قد بدأ في عهد الرئيس أوباما بشأن الاتصالات وتحويل الأموال والزيارات، مع لغة امتازت بالمرونة، فإن السياسة العامة ظلّت تندرج في إطار لغة الحرب والتهديد واحتمالات الغزو والتدخل بالشؤون الداخلية، وإن اختلفت منطقة التدخل.
المعركة الجديدة القائمة والتي سيتوقّف عليها مصير ومستقبل كوبا ونظامها السياسي هي المعركة السابعة ونعني بها معركة كوبا مع الحداثة واستخدام العلم والتكنولوجيا، فقد ظلّت كوبا إلى حدود غير قليلة وبسبب الحصار وعدم وجود إمكانات كافية، معزولة وتعاني شحّ الموارد، الأمر الذي عطّل التنمية وأضعف فرص الالتحاق بركب الحداثة والاستفادة من منجزاتها، حيث تعمّق الاحتقان الاجتماعي والهيمنة البيروقراطية، ولعلّ هذا يتطلب فحص وتدقيق الشعارات والسياسات القديمة بعد الإعلان عن عودة العلاقات مع واشنطن، خصوصاً بتجديد شباب الثورة، وإلاّ فإن الثورة ستهلك بفعل عوامل داخلية، ناهيكم عن العنصر الخارجي الذي يحاول تفتيت أطرافها، ليتمكّن من اختراق قلبها والنفاذ إلى صميمها!
وكان من الأخطاء التي وقعت بها الثورة سابقاً هو اللجوء إلى الصناعات الثقيلة، وبناء مصانع للصناعات الكبيرة، الأمر الذي أدّى إلى تبديد طاقات اقتصادية وإنتاج سلع وبضائع لم تجد لها تصريفاً ولا حاجة للاستهلاك المحلي. وتستغل بعض قوى الثورة المضادة اليوم، لاسيّما بعض رجال الأعمال الانفتاح النسبي الذي حصل بعد فترة انغلاق طويلة لإمرار دعوات لإعادة العلاّقات مع «إسرائيل»، وأخذت بعض الجماعات تتستر للقيام بأعمال معادية تحت تلك الحجة، حيث نشطت الدعاية الصهيونية المتستّرة وراء شعارات أخرى.
إنّ اليساريين بشكل عام والماركسيين بشكل خاص، وإنْ اختلفت مدارسهم وتوجهاتهم يتطلعون بقلق إلى التجربة الكوبية، وكيف يمكنها حسم معركة الحداثة والحرية، اللتين من دونهما لا يمكن تحقيق التنمية الإنسانية المستدامة، وبذلك فهم ينظرون إلى الشجرة من منظار آخر، ويأملون أن تنضج تفاحتها لكي يقطفها الشعب الكوبي، لا أن تسقط في سلّة واشنطن التي تنتظرها منذ خمسة عقود ونصف من الزمان، وكان بعض ذلك جزءًا من حوار فكري وثقافي مع سفير كوبا في لبنان رينيه سيبالوبراتس ضمّ نخبة من المفكرين والباحثين والأكاديميين والمعنيين بالشأن العام.
المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية، الأربعاء 6/5/2015