من ينقذ أرواح المصريين؟
أوضاع القطاع الصحي في مصر تعكس حجم الظلم والتفرقة وانعدام المساواة بين المواطنين في الحصول على العلاج، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن العلاج على نفقة الدولة في الداخل والخارج لا يستفيد منه الفقراء والبسطاء وإنما فئة محدودة تكاد تنحصر في كبار المسؤولين والمشاهير من الفنانين والفنانات، والطبيب المعرض للعدوى بحكم طبيعة عمله لا يحصل إلا على 19 جنيهًا بدل عدوى بينما يحصل القاضي على 3000 جنيه بدل عدوى!
والجرائم التي ترتكب بحق المصريين لا تقتصر على مجال واحد، ويأتي في مقدمتها الإهمال الجسيم في المجال الصحي وكأن هدف أنظمة الحكم المتعاقبة هو قتل أكبر عدد ممكن من المصريين بالأمراض المختلفة.
وجرائم القطاع الصحي في مصر أصبح علاجها والتصدي لها والحد منها صعبًا نظرًا لغياب الرقابة على هذا منشآت ذلك القطاع الحيوي، ولأن هناك من يغطي عليها، وهناك الجهل المنتشر بين المواطنين والقناعة الموجودة لدى العامة بأن إكرام الميت دفنه.
والتدهور الحاد والإهمال الجسيم الذي يشهده القطاع الصحي في مصر لا يمكن تبريره والسكوت عليه، وهذه القطاع بحاجة لثورة شاملة تنقذ الموارد البشرية التي هي عماد النهضة في أي دولة.
تدهور القطاع الصحي
الإهمال في القطاع الصحي العام في مصر ليس له حدود، والأوضاع في المستشفيات العامة وصلت إلى حالة من السوء لا يمكن وصفها، فالأوضاع في هذه المستشفيات متردية من ناحية النظافة العامة والتعقيم، ومن ناحية توفر الكوادر الطبية المدربة، ومن ناحية توفر وسائل العلاج، والكثير من هذه المستشفيات لا يوجد بها أبسط أنواع الأدوية والمسلتزمات الطبية التي يحتاجها البسطاء ويطلب منهم الأطباء شراءها من الصيدليات الخاصة بما في ذلك الأدوات التي تستخدم في العمليات الجراحية.
والمستشفيات العامة تشهد مهازل شبه يومية تتمثل في الاعتداءات المتكررة على الأطباء وعلى طاقم التمريض، وفي الزحام وتكدس المرضى ونقص عدد الأسرة ووضع المرضى على الأرض، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، والتدخين في غرف المرضى وفي الممرات الداخلية، وإدخال الممنوعات للغرف الداخلية، والتصرفات غير اللائقة من قبل الزوار.
والأوضاع في القطاع الصحي الخاص ليست أفضل حالًا من القطاع العام، فقد غلب على هذا القطاع الجشع والاستغلال والمتاجرة بالمرض، والمريض في المستشفيات الخاصة يحاسب على كل شيء، ولا يوجد بها أدنى مقومات التعقيم اللازمة لمنع انتقال العدوى وانتشار الجراثيم والميكروبات والفيروسات.
ومن المشكلات التي يعاني منها القطاع الطبي في مصر غياب الرقابة على العيادات والمستشفيات الخاصة، ووضع هذه العيادات من حيث التعقيم والنظافة العامة يمثل كارثة صحية، لأنها أماكن موبوءة تنقل الأمراض ويمرض فيها الصحيح على الرغم من تقاضي الأطباء وأصحاب المستشفيات الخاصة مبالغ كبيرة مقابل تقديم خدمات طبية متواضعة جدًا.
والصور الصادمة التي نشرها الأطباء على صفحات التواصل الاجتماعي عقب زيارة رئيس الوزراء لمعهد القلب هي غيض من فيض وتدل على الوضع المزري الذي وصل إليه القطاع الصحي في مصر والذي يحتاج إلى جراحة عاجلة تنقذ أرواح المصريين.
تدهور مستوى التعليم الطبي
تدهور مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمواطن المصري البسيط مرتبط إلى حد كبير بتدهور مستوى التعليم الطبي في مصر الذي كان له شأن في الماضي وهناك دول لا تعترف بالشهادات الطبية التي تصدر في مصر حاليًا بما في ذلك شهادات القصر العيني الذي ذاع صيته في فترات ماضية.
وعلى الرغم من تدهور التعليم الطبي في مصر وتردي الوضع الصحي يخرج وزير التعليم العالي ليؤكد في أحد تصريحاته “أن مصر تمتلك مستشفيات أفضل من الموجودة في بريطانيا من حيث المباني والتجهيزات”!
وتردي الخدمات الطبية في مصر حدث نتيجة الإهمال الجسيم في التعليم الطبي والتدريب، والمهازل الطبية والأخلاقية التي تحدث في المستشفيات الجامعية، وعدم وجود معايير لضمان جودة التعليم والتدريب وجودة الخدمات الطبية التي تقدم للمرضى في هذه المستشفيات التي أصبح الداخل إليها مفقودًا لا محالة.
ومن الأمور التي لا تبشر بخير ويمكن ملاحظتها في المراكز الطبية عدم اكتراث الأطباء بالتعقيم ومنع انتقال العدوى أثناء معالجة المرضى، والتساهل في عملية التعقيم والوقاية من العدوى حتى على المستوى الشخصي، وأعتقد أن رهان الجميع بما فيهم الأطباء على مقاومة العدوى هو القوة الخارقة التي يتمتع بها المصريون في مواجهة الفيروسات والميكروبات والكائنات الضارة وقدرتهم على الصمود كنتيجة حتمية للكم الهائل من الملوثات التي يتعرض لها المواطن المصري بشكل يومي في طعامه وشرابه وفي الهواء الذي يتنفسه، وعبقرية المصري المعاصر تمكن في قدرته على البقاء حيًا على الرغم من عوامل الهلاك وأسباب الموت المتعددة التي يواجهها يوميًا!
والأخطاء الطبية في مصر على كثرتها لا يوجد من يحاسب عليها وهناك أسباب لذلك منها: عدم القدرة على إثبات وقوع الخطأ الطبي، ومنها رد الموت للقضاء والقدر وانتهاء الأجل، وثقافة إكرام الميت دفنه وقد يكون في بعض الحالات جريمة قتل وليس موتًا عاديًا.
والكثير من الأطباء تحولوا إلى تجار لا يعنيهم سوى جني المزيد من الأرباح حتى ولو كان ذلك على حساب صحة المريض وعلى حساب الفقراء والمحتاجين، وهناك عدد كبير من الأطباء يجنون أرباحًا طائلة وبخاصة أطباء النساء والتوليد أطباء الجراحة ومع ذلك لا يفكرون في تطوير عياداتهم ومستشفياتهم وفي توفير الحد الأدنى المطلوب من التعقيم والرعاية الطبية.
وعدد كبير من الممرضين والممرضات في العيادات والمستشفيات تحولوا إلى شياطين لتعذيب المرضى وابتزازهم من أجل رؤية الطبيب أو من أجل المساعدة في الحصول على العلاج اللازم.
غرف العدوى والموت!
غرف العمليات في الكثير من المستشفيات العامة والخاصة تفتقر للنظافة العامة ولا يوجد بها تعقيم للأدوات أو أدوات للحماية الشخصية للكادر الطبي، ومن المؤسف أن التعقيم والنظافة العامة في صالونات الحلاقة في بعض الدول أفضل بكثير من التعقيم في غرف العمليات في مصر.
وغرف العمليات في الكثير من المستشفيات تحولت إلى غرف للعدوى والموت نتيجة وجود عدة أنواع من الملوثات بداخلها ومنها: تلوث الأدوات الجراحية وعدم وجود أجهزة للتعقيم، وتلوث الأسرة والمفروشات بالدم، وتلوث الحوائط والأرضيات، وعدم وجود مطهرات أو حتى صابون لغسل الأيدي.
والكثير من المرضى الذين يدخلون العيادات أو المستشفيات لإجراء جراحة بسيطة يخرجون منها وهم حاملين لفيروسات قاتلة ليس لها علاج.
وحل هذه المشكلة يكمن في وضع معايير صحية صارمة لغرف العمليات، والرقابة المشددة عليها لمنع انتقال العدوى، وعدم السماح بإجراء العمليات في العيادات الخاصة التي لا تتوفر فيها الاشتراطات الصحية لإجراء العمليات.
النفايات الطبية
من أكبر جرائم القطاع الصحي في مصر سواء كان ذلك في القطاع العام أو الخاص الإهمال الجسيم في إدارة النفايات الطبية الخطرة التي تُلقى في كثير من الأحيان على الأرض ولا توجد حاويات مخصصة لفرزها حسب درجة خطورتها، ولا يوجد هناك تخلص آمن منها، فالكثير من العيادات والمستشفيات العامة والخاصة تلقي بالنفايات الطبية في حاويات النفايات العامة، وبعضها يلقي هذه المخلفات الخطرة بجانب المصارف المائية والترع، وهذا الأمر يؤدي إلى انتشار العدوى داخل المرافق الصحية وخارجها، ويؤدي إلى زيادة أعداد المرضى، وهذا الإهمال الجسيم في مجال النفايات الطبية الخطرة سبب رئيسي من أسباب انتشار الفيروسات الخطيرة كفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي الذي يعاني منه حوالي 20 مليون مواطن مصري.
مافيا الأدوية والتحاليل
تشكل تجارة الدواء في مصر جزءًا من مشكلات القطاع الصحي وهذا القطاع يُعاني كغيره من القطاعات من الفساد في الإنتاج وفي التوزيع والتداول.
ومن مشكلات القطاع الصحي في مصر والتي تستهلك قدرًا كبيرًا من ميزانية وزارة الصحة الإسراف طلب وفي صرف أنواع معينة من الأدوية في التأمين الصحي وعدم استخدام الكثير من المرضى للأدوية التي تصرف لهم والبعض يقومون ببيعها بنصف الثمن ويستبدلونها بأدوية أخرى أو بمستحضرات التجميل.
وعدد كبير من الأطباء معدومي الضمير في القطاع الخاص يقومون بكتابة أدوية غالية الثمن ولا يستفيد منها المرضى نزولًا عند رغبة شركات الأدوية واستفادة من الرشا والعمولات التي تقدمها هذه الشركات لهم.
وفي مصر لا يوجد تجريم لصرف الأدوية التي يجب عدم صرفها بدون وصفات طبية، والكثير من الصيدليات لا تلتزم بصرف الأدوية بناء على وصفة طبية، وبعض المنحرفين يحصلون على أنواع معينة من المخدرات من الصيدليات.
ومن الجرائم التي تُرتكب في المراكز الطبية الخاصة طلب إجراء فحوصات طبية مثل الأشعة والتحاليل بدون دواعي طبية حقيقية، وهناك علاقات وتعاملات مشبوهة بين بعض الأطباء وبين مراكز التحاليل والأشعة المشهورة.
ميزانية الصحة
ضعف المخصصات المالية للإنفاق على القطاع الصحي سبب رئيس من أسباب تردي مستوى الخدمات الصحية التي تقدم للمواطن المصري، فميزانية وزارة الصحة في مصر ضعيفة ولا تتعدي 5٪ من ميزانية الدولة بينما لا تقل ميزانية وزارة الصحة في معظم دول العالم عن 15٪ وتصل في بعض الدول إلى 20%.
وضعف الميزانية ليس السبب الوحيد في تردي الخدمات الطبية الحكومية لأن جزء كبير من الميزانية يذهب لجيوب مدراء المستشفيات والهيئات التابعة للوزارة في صورة رواتب وبدلات وامتيازات، وينفق على مشروعات وهمية، وهناك أموال التبرعات وأموال الصناديق الخاصة التي تُحصل من المواطنين بشكل غير قانوني في صورة رسوم الزيارة وغيرها ولا يعلم أحد عنها شيئًا ولا تخضع للرقابة أو المحاسبة، وهذه الأموال يفترض أن تُستخدم في تحسين وتطوير الخدمات الصحية التي تقدم للمرضى.
قناطير العلاج في مصر
يقولون في الأمثال “درهم وقاية خير من قنطار من العلاج”، ولكننا للأسف بخلنا بالدرهم فأنفقنا القناطير المقنطرة على العلاج.
والمشكلات الصحية المتفاقمة في مصر لها أسباب عديدة منها إهمال النظافة العامة وما يؤدي إليه من انتشار الحشرات والقوارض التي تنقل الأمراض.
ومنها غياب الرقابة على المبيدات والهرمونات التي يُسرف المزارعون ومربو الدواجن في استخدامها وما تسببه من أمراض مثل السرطان والالتهاب الكبدي والفشل الكلوي وغيرها من الأمراض.
ومنها غياب الرقابة الصحية على مصانع الأغذية والمشروبات وانعدام الرقابة على المنشآت التي يتم فيها تداول الأغذية كالمحلات والمطاعم وغيرها، وفضائح مثل إضافة مادة الإديتا للفول الوجبة الرئيسية لغالبية المصريين، وإضافة مادة الفورمالين لمنتجات الألبان، وفضيحة بيع لحم الحمير للمواطنين خير دليل على غياب الرقابة الصحية، والمهزلة الكبرى هي تصريح أحد المسؤولين بأن لحوم الحمير ليست ضارة!
ومنها غياب الرقابة الصحية على الحلاقين وصالونات التجميل التي تعتبر وسائط لانتقال الفيروسات بين المترددين عليها، ومنها غياب الرقابة على المستشفيات العامة ومحاسبة المهملين والمقصرين في تقديم الخدمات الصحية للمواطنين.
ومنها غياب الرقابة الصحية على العيادات والمستشفيات الخاصة والتأكد من حصولها على التصاريح اللازمة لتقديم الخدمات العلاجية للمواطنين، ومراجعة الاشتراطات الصحية فيها ومراجعة أسعار الخدمات الطبية التي تقدمها.
ثورة لإنقاذ أرواح المصريين
العقل السليم في الجسم السليم كما يقولون، وصحة المواطنين من الأولويات التي ينبغي الاهتمام بها وأن توضع على قائمة الإصلاح التي تتبناها الحكومات والأحزاب المختلفة.
ومصر حاليًا بحاجة لثورة شاملة لإصلاح المجال الصحي، لأنه أصبح المهدد الأول لنمو المجتمع وتطوره وأصبح العائق الأكبر أمام النهوض.
ومخالفات وقضايا ومشكلات القطاع الطبي في مصر ينبغي أن تناقش بشفافية وأن تقوم الجهات المسؤولة عن هذا القطاع باتخاذ الخطوات اللازمة لإنقاذ هذا القطاع المنهار بالكلية، والعمل على وضع تشريعات تحفظ حق المواطنين في الحصول على العلاج المناسب والآمن، وترتقي بمستوى التعليم الطبي في مصر، وتضمن محاسبة المسؤولين في هذا المجال على التقصير والإهمال والأخطاء المتعمدة التي تحدث بحق الكثير من المرضى.
وهذه الخطوات والجهود لا بد أن تكون مصحوبة بتوعية صحية للمواطنين يعرف من خلالها المواطن العادي أن له حقًا في الحصول على خدمة صحية متميزة وآمنة، وأن من حقه أن يتقدم بشكوى وتظلم لجهة الاختصاص إذا حدث تقصير في تقديم الخدمة الصحية له أو لأي فرد من أفراد أسرته.