“تأثير الإنسيّة على أنطولوجية اللّغة”
أشرف اقريطب
حاولت في هذه المقالة البحثية، الحديث عن تأثير موضوع الإنسية من اتجاه لساني/لغوي محض؛ مُبينا كيف أن اللغة بمثابة ذلك المعيار الذي يُعلي قيمة الإنسان ويجعله في مكانة المُستحق لمركزية الكون، على اعتبار أن امتلاك اللغة هو امتلاك بشري ـ فردي محض تعجز عنه باقي الكائنات الحية الأخرى.
نبدأ تحليلنا بتحديد المفاهيم الأساسية؛ ونبدأ بمفهوم الإنسيّة، حيث يبقى التعريف الشائع للإنسية هو اعتبارها اتجاه فكري عام تشترك فيه العديد من المذاهب الفلسفية والأدبية والأخلاقية والعلمية، وقد ظهرت واكتملت بجلاء في عصر النهضة. وقد أعادت هذه الحركة الاعتبار لعقل وقوة الإنسان، حيث أصبح الأخير مركز الكون. وضمت هذه الحركة شخصيات مرموقة من مختلف المجالات (أساتذة، رجال كنيسة، سياسيين…) اجتمعوا بهدف نشر أفكار تجعل الإنسان محور التفكير واعتبار المعرفة جوهر وجوده. هذا بخصوص الإنسية، فماذا عن الأنطولوجية؟
الأنطولوجية أو علم الوجود؛ علم يدرس الوجود بذاته، أي الوجود في ذاته ولذاته مستقلا عن أشكاله الخاصة. وعموما يبقى مصطلح الأنطولوجيا يتضمن دراسة الموجودات أو ما نفترض أنه موجود من أجل الوصول المقنع إن أمكن إلى الحقيقة. وسنحاول أن نربط الأنطولوجيا باللغة، على اعتبار أن اللغة أصبحت جاهزة لتوضيح معالم هذا الوجود. قبل ذلك علينا تعريف اللغة.
لعلنَّا نجد تعريفات عدة للغة ـ نقصد هنا اللغة الطبيعيةـ فمثلا يعرفها ميشال زكريا في كتابه الألسنية “بعملية أو واقعة اجتماعية تابته تكمن خارج نفوذ الفرد الذي لا يستطيع، والحالة هذه أن يُوجدها أو أن يعدل فيها”. وهناك تعريف لابن جني في الخصائص في القرن الرابع الهجري حيث جعلها “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، إلى غيرها من التعريفات، لكن تبقى اللغة أفضل مُعبِّر عن أحاسيس وتعبيرات وعواطف الإنسان، فأهم وظيفة عُنيت بها اللغة هي وظيفة التواصل، فهي ذلك الشرط الذي على الإنسان اكتسابه للدخول في المجتمع.
إذن فاللغة لها ارتباط وثيق بوجود البشرية، فاللغة والوجود يصبحان هنا وجهان للوعي الإنساني في أصله وجوهره، فمن خلال اكتسابنا للغة ندخل لمساحة الوجود، فالطفل مثلا لا يحصل على الاعتراف إلا عندما يتكلم لغة الجماعة، حيث تصبح الأخيرة القانون الذي يُفرض ـ كما ذكرنا ـ علينا بالقوة والإلزام. كلساني أحاول أن أطرح تصور شومسكي؛ والذي جعل اللغة “أفضل مرآة للفكر”، وشومسكي هنا يلتقي مع ديكارت ومبدأهِ المشهور “مبدأ الكوجيطو”، فامتلاك اللغة هنا حسب شومسكي خاص بالإنسان ومميز له عن الحيوان، فحتى الحيوانات الأرقى ذكاء مثل القردة لا تصل إلى اكتساب اللغة رغم محاولات تدريبها على ذلك؛ وهو ما يظهر فطرية اللغة عند الإنسان.
وبالتالي فاللغة مظهر من مظاهر الإنسية، كيف لا وهي تستند على ركيزتان أساسيتان؛ ممارسة التفكير وممارسة الحياة الاجتماعية فضلا على أنها سبيل الكشف عن النفس، والغير والكون…والتجلي، وبامتلاك الإنسان لهذه الخاصية (اللغة) فهو يستحق أن يكون خليفة الله في الأرض.
اللغة هنا تتجاوز حدود وظيفتها الأصلية المتمثلة في التواصل، فتصبح دالَّة على الوجود الإنساني في جوهره وأنطولوجيته؛ فجزء من مركزية الإنسان للكون هي لغته.
هكذا إذا شكلت دراسة اللغة ـ باعتبارها نسقا من العلامات ـ فتحا جديدا لفهم النوع الإنساني، وهنا تظهر أهمية اللغة في التعبير عن كنه الوجود الإنساني، فإعادة الاعتبار للإنسان تقتضي الإهتمام بلغته من خلال تقريب مُختلف الأشكال الثقافية والأدبية للقارئ بلغته المحلية، وهذا ما ظهر إبَّان الحركة الإنسية؛ حيث اتجه الكُتَّاب ـ وخاصة الأوربيون منهم ـ إلى التأليف باللغات المحلية كالفرنسية والإسبانية بدل اللغات اللاتينية التي كانت مُسيطرة آنذاك. كما عرفت لغة القصص والمسرحيات والروايات انفراجا ورواجا كبيرا بعد أن كانت مثل هذه المواضيع مسكوت عنها إن صحَّ التعبير.
أختم برأي شخصي متواضع، مضمونه أنه لكي نُحدث أي ثورة معرفية جديدة كما فعلت الحركة الإنسية في النهضة الأوربية، لابدَّ من الاهتمام باللغة، وأقصد هنا بالاهتمام أي بالسؤال عن معادلة جوهرية دقيقة قوامها أن ثنائية الكائن والكينونة يتحدَّدان بواسطة اللغة.
* طالب باحث بمعهد الدوحة للدّراسات العليا
برنامج اللّسانيّات والمعجميّة العربيّة