اللوعة على (مغنٍّ) والإهمال لعلماء!
بقلم- أ.د. عمر بن قينة
لا أكتم القارئ أنني تحاشيت هذا الموضوع لاعتبارات شتّى، ليس أهمها أنانية (عالِم جامعي)! في الموضوع ولا ما قد يراه بعضٌ (انحيازاً) لفضائي الثقافي الذي هو فضاء أمة (ننشدها) في وطن يرعاه رجال يتركون بصماتهم التاريخية في رقيّه حالاً وإنساناً، لكن الموضوع لا يكاد يتراجع من الذاكرة حتى يقتحمها ضاجّاً في أرجاء ذهني، يؤازره واقع مزرٍ، فيقرع ذلك الذهن والفؤاد؛ فيعصر القلب الجريح عصراً.
رضخت اليوم جزئياً، لذكرأستاذ (اللسانيات) العَلَم الذي أحبّ لغة الضاد فأسّس لها المخابر العلمية مع بعض طلبته ثم زملاء له منهم. هو رئيس (رئيس المجمع العلمي للغة العربية) التابع لرئاسة الجمهورية، عضو المجمع العلمي بالقاهرة الأستاذ الدكتور (الحاج صالح عبد الرحمن).
توفي الرجل صباح يوم (3 /3 /2017) في التسعين من العمر، وهو على رأس (المجمع) لم تنقل خبر وفاته إلا بشكل هامشي صحيفة واحدة (جديرة بالقراءة) دون عشرات الصحف اليومية، وإن كنت لا أتابع فضائيات فلا أحد من أفراد الأسرة ذكر لي أنه شاهد في إحداها خبر وفاته، ولا (أسف) عليه! (الأسف) حتّى (النّداب) الصاخب و(الولولة) العالية والتعازي حتى من (السلطات العليا)! والتغطيات الصحفية والصور التلفازية و(اللوعة) إنما كانت على (مغنٍّ) أميّ محلّيّ جداً، وقبله (ممثّل) هزيل بائس وبعدهما (موسيقي) لا يتجاوز ذكرهم الجزائر، أمّا العالم فنصيبه (اللاّمبالاة)!
هو تاريخنا الذي (لا يتغيّر) خصوصاً منذ بات السوء السياسي والحزبي وهيمنة (الغوغاء التجارية الإعلامية) علينا، نُقصي رجال الثقافة والفكر الجادين؛ فنُحاصرهم أحياءً وأمواتاً، ونقرّب أنصاف المتعلّمين والانتهازيّين، مما كان – ولا يزال – يجبر النُّخب العلمية على الهجرة، حيث يلمعون بكفاءاتهم ومواهبهم؛ فتستفيد منهم أوطان في العالم وتحلّهم مكاناتهم، وتخسرهم أوطانهم، كحال الكفاءات في الوطن العربي الذي بات في قبضة الفاسدين! لا يندثر فاسد حتى يخلفه من هو أكثر فساداً في حياة أمّة ووطن!.
لم يُهاجر (الحاج صالح) بل مكث في (جامعة الجزائر المركزية) منذ (1963) حيث تتلمذت عنه في مادة (اللسانيات واللغويات) في سنة دراسية واحدة، لكنّني كما آسف اليوم على تجاهله أسفت لسلبيته: عطاءً وحبّاً، أدعو الله أن يغفر لنا وله!، وقد بات عند خالقه! أبوح بهذا (للعبرة)! (للعبرة أكرّر) لا للنيل منه كقامة علمية لكنها سلبية، في قلة الإفادة بعلمه، فلم يترك إلا كتابين أو ثلاثة، الأسوأ أنه كان سلبياً حتّى مع طلبته في التخصّص الدقيق، لا يشجّعهم؛ فلا يسهر على بحوثهم، بل يضيق بطموحهم، نفس (الضيق) تجاه زملائه، ومنهم من كانوا طلبته، كما يُعرقل طلبة الدراسات العليا: مشرفاً ومناقشاً، مع ذلك لم أسحب تقديري له، فحاولت بعد تخرّجي الإشادة بقيمته (العلمية) في الصحافة.
بُخس حقّه، وقد أسهم إذن – رحمه الله – في ذلك، بشيء من حسد لديه، وعدم نصح :أبويّ – أخويّ لطلبته وزملائه، فضلاً عن شيء من (غرور) غفر الله له ! حتى وهو على رأس (المجمّع العلمي) الذي ربض على كاهله فأبقاه في حالة شلل، لاهمّ له إلا راتب مكتنز حتى آخر لحظة من حياته، وهو في التسعين من (العمر)! ماذا أخذ معه؟!
هذا لا يبرّر اللاّمبالاة بوفاته كعالم، كما كانت اللاّمبالاة بعلماء أفذاذ ومفكرين سابقين، هذا من دوافع كلمتي، من أهمّهم الشخصية العالمية (مالك بن نبي) رحمه الله!، أول مدير لجامعة الجزائر والتعليم العالي بعد (الاستقلال) رحل في صمت! بينما يجري (تسخين الطبول) و(صقل المزامير) لموت مغنّ نكرة لا يرقى حتى إلى المستوى (الوطني) فضلاً عن العربي عموماً، لكن (النواح) عنه سرعان ما انفجر، عبر طبول الإعلام و(مزامير السياسيّين) أصل كل بلائنا (كقدوة سيّئة للسّذّج)! فوصل الهوان بتأثير من ذلك حتى إلى (المساجد)! فلأول مرة رفع إمام جمعة (في زمن الصعلكة) عقيرته في (مسجد مالك بن نبي) بحي (ابن عكنون) بالعاصمة فقال مخاطباً المصلين في نهاية الخطبة “لا ننسى في الأخير أن نعزّي الشعب الجزائري في فقيده الفنان أعمر الزاهي”!.
هكذا! بكل وقاحة! لو حدث هذا في (زمن رجال) لكان ذلك آخر كلامه في المسجد، لا فرصة له في صلاة العصر!.
لك الله يا وطناً عزيزاً! أتأوّه ويدي على صدري، أداري قلقاً في مقلتي!.
المصدر: صحيفة الراية القطرية