الخطابة بين التقليد والتجديد
منذ بدءِ الخليقة والإنسان يسعى لأن يُوصِل فكرته بغير طريقةٍ ممكنة، فترى من يحمل الناس حملاً على اعتناق أطروحته، وآخر يسلك سبلاً غير سويةٍ بغية تحقيق ذات الهدف، وثالث يطرق أبواب العقل ورابع يجيش العواطف ويستثير المشاعر. مع ظهور الحاجة الملحة لإيصال الأفكار للآخرين وضرورة استمالتهم لتحقيق نتيجةٍ مرجوة، فإن الخطابة كانت السلاح القوي الذي استعمله الإغريق والرومان. ظل الأمر على هذه الشاكلة إلى عهد أرسطو والذي انتهج هديًا ميّزه عن أستاذه أفلاطون، فلقد جرد أرسطو سيفه ليطعن به السفسطائيين دون هوادةٍ، وساعده في ذلك تنظيمه للخطاب الذي قدمه للناس.
قسم أرسطو خطابه لثلاثةِ أركان: “الإيتوس” ويتعلق بأخلاق الخطيب أو المتكلم، “الباتوس” ويهتم بحالة المستمع أو الجمهور، بالإضافة إلى “اللوغوس” ويشير للقول نفسه من حيث قدرته على الإثبات والإقناع. وقد لعب هذا التقسيم دورًا رئيسًا في تصميم الخطاب الجماهيري أو الصناعية القولية حتى هذه اللحظة. وقبل معرفة العرب بالخطابة فقد كان الشعر منهلهم الأول، حتى أنهم كانوا يهنئون بعضهم بعضًا إذا ولد لهم غلام، وإذا أنتجت لهم الخيل، وإذا نبغ فيهم شاعر؛ هذه كانت مباعث الفخر والعزة لديهم حتى ظهرت الخطابة. لمّا عرف العرب الخطابة تراجع الشعر إلى مرتبة الوصيف، واستلمت الخطابة حقيبة وزارة إعلام القبيلة العربية، فنبغ الخطباء المصاقع وعلى رأسهم قس بن ساعدة الإيادي وأكثم بن صيفي ولبيد بن ربيعة وسهيل بن عمرو وغيرهم. كانت الخطب في العصر الجاهلي تدور في فلك المفاخرات والمنافرات؛ فلما أشرقت شمس الإسلام وسطع نور خير الأنام، اكتسبت الخطابة بريقًا خلابًا لاسيما وأنّ المصطفى قد أوتي جوامع الكلم، ثم جاءت الفتوحات الإسلامية فتوسعت الموضوعات التي تناولتها الخطب.
ظلت الخطب على منوالها المعتاد حتى منتصف القرن العشرين والذي شهد نقلة نوعية في تاريخ الخطابة؛ فقد أصدر “بيرلمان” وصديقه “تيتكاه” مصنفًا بعنوان الخطابة الجديدة، وأفردا فيه بابًا مطولًا حول مفهوم الحجاج وماهيته وطرق تفعيله في الخطاب. تبع ذلك ظهور كتاب “تولمين” استعمالات الحجاج، وغيرها الكثير من المولفات التي كانت تسعى لتغيير فكرة الخطابة التقليدية وترمي لتجديد الخطابة. بذلك أصبح الحجاج عصبَ الخطابةِ الحديثة ومادتها المؤثرة. وطفقت الخطابة الجديدة تنسلخ من الاهتمام بالمحسنات والصور البديعية إلى تفعيل تقنيات الحجاج؛ فساعد ذلك على إزكاء روح المنطق ومخاطبة العقل باحترام قدراته دون العزف على أوتار المشاعر والعواطف وحدها.
الخلل الذي سقط فيه بعض الخطباء باتباعهم منهجية الحجاج أنهم استبعدوا المشاعر كليةً من الخطابة الحجاجية؛ مما أفقدها التأثير الذي كانت تلتمسه وترنو إليه منذ نشأتها. من أشهر الأمثلة التي يمكن التدليل بها على انجراف الخطابة الجديدة عن مسعاها الرئيس أن الشعب الأمريكي ضرب بعرض الحائط خطب “جوزيف ستريت” والذي اعتاد في تسعينيات القرن الماضي أن يتعامل مع النصوص المقدسة بدرجة مزعجة من استعمال الحجاج المنطقي، وأهمل المشاعر والعواطف التي تكتنف هذه النصوص جملةَ وتفصيلا.
الحديث عن التجديد في الخطابة في الوقت الراهن يوجب علينا تمكين الخطيب من مهارات الخطابة الحجاجية، مما يترتب عليه ظهور فكر قوي ومؤثر وتقديم نماذج يحتذى بها في عرض الرأي والرأي المقابل دون حجر أو حجب، وأن يتسلح الخطيب بملكات التأثير في الجماهير وأن يجتهد لتوظيف الأنواع المختلفة للحجاج ليخدم الفكرة التي يريد إيصالها؛ فهذا من شأنه أن يصبح الخطاب عقلانيًا مع درجة من العاطفة لا يصل إلى حد التشنج في إفراغِ ما في جعبته، ولا يعجز عن الإدلاء ببراهين تخدمها.
الأستاذ/ محمد الشبراوي
كاتب ومدون