الحداثة السائلة
والحاجة إلى منظور السننية الشاملة
سر نجاح نهضة المجتمعات أو فشلها:
التقيت في المؤتمر الدولي حول “أسئلة النهضة في الذكرى السبعين لصدور كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي” رحمه الله، الذي نظمته كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة بقطر، بالأخ العزيز الأستاذ محمد إبراهيم خاطر، الكاتب والمدرب الناجح، والمشرف على موقع تعارفوا www.t3arfo.com ، ودار بيني وبينه حوار خصب حول “النهضة الحضارية وضرورة الوعي بمنظور السننية الشاملة” الذي كنت قد تحدثت عنه في مداخلتي بالمؤتمر المذكور، ولقي استحسانًا لدى أخي محمد خاطر، فأحب التعريف به، ورغب إلي أن أكتب له شيئًا عن ذلك، فلبيت رغبته، وكتبت إليه الرسالة التالية، شاكرًا له حرصه على المساهمة في دعم الأفكار والمشاريع النافعة.
وهذا دون شك دأب المثقفين الرساليين المستنيرين، الذين يرون في جهد غيرهم رافدًا من روافد الدعم لمشاريعهم، وجهدًا مضافًا لسد الثغرات والجبهات المفتوحة في طريق النهضة الحضارية للمجتمع والأمة، بخلاف غيرهم من بعض المثقفين الأنانيين الذين يتبرمون من غيرهم ويضيقون بهم ذرعًا، ويسعون في تهميشهم والتنقيص من أقدارهم، بل وأحيانًا يحرشون عليهم العامة أو السلطان الظالم، لينتهك حرمتهم، ويمس بحقوقهم المادية والمعنوية مع الأسف الشديد!
ولو أن كل مثقف أو سياسي أو رجل أعمال أو صاحب وجاهة اجتماعية، أو أي شخص في المجتمع، رآى في غيره سندًا له وللمجتمع، وسعى في إعانته على أداء مهمته، وكفَّ عن عرقلته أو خذلانه، لبارك الله تعالى في جهد النخبة، ولنتقل تأثير ذلك إلى عامة الناس في المجتمع، ولصلح أمر هذا المجتمع وبارك الله تعالى في سعيه نحو تحقيق نهضته الحضارية.
وروي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول:”وددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الله الحق على يديه” . وقبل ذلك جاء في القرآن الكريم هذا التوجيه التربوي الرفيع الذي يحدد أدب ومنهج العلاقة بين أجيال المجتمع والأمة خلفًا عن سلف إلى يوم الدين:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }.[الحشر: 10]
والنهضة الحضارية التي هي قدر كل مجتمع يريد أن يحفظ كرامته، ويحافظ على مصالحه، ويعزز هويته، وتكون له مكانة وقيمة تحت الشمس، لا يمكن لشخص أو جماعة أو فئة أو تيار أو جيل.. أن يستقل وحده بتوفير شروطها، وإنجاز أهدافها، وحماية مكتسباتها، بل هي جهد جماعي مجتمعي متناغم ومتكامل، يعضِّد فيه كل فرد أو مؤسسة أو جماعة أو فئة أو تيار.. الجهد البنائي الرشيد لبقية الأفراد والمؤسسات والجماعات والفئات والتيارات والأجيال الأخرى في المجتمع، فتكاملية الجهود البنائية المتنوعة، هي سر قوة المجتمعات وشرط نهضتها الحضارية، وتنافرية هذه الجهود واهتلاكيتها الذاتية والاجتماعية، هو سر ضعف المجتمعات وتعثر نهضتها الحضارية، واكتوائها بنار التخلف والضعف والغثائية الحضارية المذلة.
لماذا منظور السننية الشاملة؟
أخي الفاضل الأستاذ محمد إبراهيم خاطر: لماذا منظور السننية الشاملة الذي اشتغلت عليه منذ ما يقرب من خمسة عقود من الزمن، وأعتبره امتدادًا لمنهج وطموح أطروحتي المقدمة الخلدونية وشروط النهضة لمالك بن نبي، بل ومصبًا لهما ولغيرهما من الجهود السابقة لهما، واللاحقة عليهما؟
إنني اعتبر بأن منظور السننية الشاملة، هو المصب العام الذي يستوعب كل روافد المعرفة والخبرة الإسلامة والإنسانية الجزئية المبثوثة في حقول شتى، ويعيد صياغتها باتجاه التكاملية المطلوبة بين المعارف والخبرات البشرية المتنوعة، ما هو موجود منها فعلًا وما سيوجد لاحقًا عبر الأجيال البشرية القادمة.
فالوعي بخريطة منظور السننية الشاملة، واستثمارها في واقع الحياة الفردية والجماعية، هو الذي يدفع بحركة الحياة نحو المزيد من الأصالة والتكاملية والفعالية والتوازن والاطرادية التاريخية الطويلة المدى، التي تفضي بالمجتمع إلى تحقيق نهضته ومداولته الحضارية المنشودة.
وقصور الوعي بهذا المنظور أو اضطرابه وتنافره، هو الذي يقف وراء اندفاع حركة الحياة الفردية والجماعية نحو المزيد من الاختلال والضعف وفقدان الوزن الحضاري، وذهاب الريح الحضارية للمجتمع.
ومن يتأمل في واقع المجتمعات الإسلامية، وواقع المجتمعات المتخلفة أو النامية، وواقع المجتمعات المتقدمة، على ضوء معطيات خريطة منظور السننية الشاملة، ستنكشف له مواطن الضعف والقصور والفشل، أو مواطن القوة والنجاح في هذا الفرد أو ذاك، وفي حركة أو مسيرة هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك، ويستشرف مآلات هذا النجاح أو الفشل، وتأثيراتهما على المجتمع والأمة والعالم.
فالنجاح يكون دائمًا بقدر انسجام الرؤية والجهد مع معطيات منظور السننية الشاملة، والاستفادة منها جميعًا في إدارة النفس والمجتمع. والعكس صحيح، فإن الفشل يكون بقدر ضعف الوعي بمنظور السننية الشاملة، والعجز عن استثمار كل معطياته السننية في إدارة النفس والمجتمع.
الحداثة السائلة والحاجة الملحة إلى منظور السننية الشاملة:
أخي العزيز الأستاذ محمد إبراهيم خاطر: إن الحداثة المعاصرة بتأثيراتها العالمية العميقة الممتدة، التي وصفها مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة بقوله: “نحن في القرن العشرين نعيش في عالم يبدو فيه امتداد الحضارة الغربية قانونًا تاريخيًا لعصرنا. ففي الحجرة التي أكتب فيها الآن كل شيء غربي. فيما عدا (القلة) التي أراها أمامي”.
وليت هذه التأثيرات توقفت عند حدود التأثير المادي أو التنظيمي التدبيري في حياة البشر، بل هي تجتاح كل شيء في الحياة الإنسانية المعاصرة، وتفرض عليها خياراتها وقيمها ومقاييسها وأذواقها وأولوياتها، وكثير من الناس يجعلون منها نموذجهم في الحياة، وأستاذهم نحو تمثُّل ذلك النموذج، يقلدونه حتى في عثرة مقصه، أو فلتات لسانه، أو حركته اللا إرادية، أو شذوذه!
وجه الخطورة في الحداثة المعاصرة: هذا هو وجه الخطورة في جبروت الحداثة المعاصرة، وهو أن يعجز الفرد أو المجتمع عن الاستفادة من جوانب الخيرية الكثيرة فيها، ويستسلم للتأثيرات السلبية فيها، التي تخص حالة السيولة والتيه الذي تعاني منه هذه الحداثة.
أخي العزيز الأستاذ محمد إبراهيم خاطر: بحسب علماء ومفكرين كثر، فإن الحداثة المعاصرة التي بشرت الإنسان بجنة الأرض، وسارت به أشواطا كبيرة على طريق المعرفة والرفاهية المادية المفتوحة على كل شيئ، تدخل اليوم في مراحل متقدمة من السيولة المفتوحة على اللايقين والخوف المعمم المجهول التبعات، كما يؤكد عالم الاجتماع باومان في سلسلة كتبه عن السيولة.
إن الحداثة المعاصرة وهي تنتقل بالإنسان من اليقين إلى اللايقين، ومن الاطمئنان إلى الخوف المفتوح، يبدو أنها أوصلته إلى حالة متقدمة من التفكك والاغتراب النفسي والاجتماعي والعدوانية العدمية البليدة، التي يصفها رينيه دوبو في كتابه (إنسانية الإنسان) بقوله:”من نواح كثيرة يشبه إنسان العصر، الحيوان البري المأسور في حديقة الحيوانات، فالإنسان اليوم ليس غريباً عن أخيه الإنسان فحسب، بل الأهم أنه غريب معزول عن أعماق ذاته “!
وإذا استمر سير الأوضاع على ما هو عليه من اللايقينية، والخوف المعمم، والعبثية الوجودية، والاغتراب النفسي والاجتماعي، وإنهاك الطبيعة، وتعميم الفساد في البر والبحر والجو، واعتبار الآخر المغاير هو الجحيم.. فإن هذه السيولة المعرفية والعقدية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية المتسعة المدى، ستصل بالإنسان إلى دركات سحيقة من فقدان الهوية الإنسانية، ومن الضنكية المنهكة، إن لم يتدارك نفسه، ويوقف هذه السيولة الجارفة لكل شيء، والمزيلة لمعالم وثوابت كل شيء في حياة الإنسان.
المنظورات السننية الجزئية والحداثة السائلة المفتوحة على النهايات المفجعة:
الأخ العزيز الأستاذ محمد إبراهم خاطر: إن من يعمق النظر في كل هذه الاختلالات والمفرزات المنهكة قديمًا وحديثًا، ويريد أن يقف على جذرها ومنبعها الأساس، فإنه سيرى بأن للمنظورات الكونية الجزئية المتنافرة حصة الأسد في ذلك كله.
فالمنظورات السننية الكونية الجزئية المنغلقة على نفسها، والمكتفية بذاتها، والمنافرة لغيرها، تتسبب حتما في تفكيك الإنسان واهتلاكه ذاتيًا، كما تتسبب في تفكيك المجتمع واهتلاكه ذاتيًا، ثم تتسبب أخيرًا في تفكيك العلاقات الإنسانية بالكون والحياة، لأن العلاقات الإنسانية والكونية مؤسسة على منطق التكاملية السننية، وهذه المنظورات الجزئية مهما كانت سننيتها، مؤسسة على منطق التنافرية السننية، التي يلغي بعضها دور وأثر بعض، ويبقي حركة الحياة الفردية والمجتمعية في دوامة الاستئنافية الصفرية المنهكة التي لا نهاية لها.
وكما قيل بحق فإن البنيان لا يتم تمامه إذا كان بعض يبنيه وبعض يهدمه، ولكنه يتأسس ويقوى ويعظم أثره في التاريخ، إذا تكاملت جهود البنائين له واطردت، وتكاملت جهود الحامين له والمحافظين عليه واطردت كذلك.
والحداثة المعاصرة بنسبويتها وغياب الثوابت السننية المرجعية فيها، تندفع بوتائر سريعة إلى مراحل متقدمة من السيولة الموغلة في التجزيئية المتنافرة، المفتوحة على المزيد من التيه والسرابية العقدية والفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية، التي كلما وصل الإنسان الضمآن شاطئا من شواطئها أو محطة من محطاتها ليرتوي منها، ويأخذ نفسه عندها، ويسكن قليلا من عناء التيه، ويمسك برأس خيط الحياة، الذي يمنحه بعض التوازن والاستقرار، وجدها سرابًا مفتوحًا على سراب تالي أشد إرهاقًا وقساوة وضنكية! فمضى قدمًا لا يلوي على شيئ نحو المحطة السرابية الموالية! وهكذا دواليك حتى يفاجئه الموت، فينقشع سراب التيه أمام عينيه، ليكتشف الحقيقة التي غيبتها عنه المنظورات الكونية الجزئية الموغلة في التجزيئية التنافرية المنهكة، كما جاء ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى:{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[قـ : 22].
ولعل في قصيدة الطلاسم للشاعر العربي إليا أبي ماضي، تصوير دقيق لجوانب من هذا التيه وهذه السيولة والسرابية المفتوحة، التي تمخضت عنها الحداثة المعاصرة؛ وخاصة في مجالات الرؤية الكونية وانعكاسات ذلك على الحياة الروحية والنفسية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية والحضارية للإنسان المعاصر.
ولنتأمل مثلًا في هذين المقطعين من القصيدة الطويلة:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
….
إنّني جئت وأمضي وأنا لا أعلم
أنا لغز… وذهابي كمجيئي طلسم
والّذي أوجد هذا اللّغز لغز أعظم
لا تجادل ذا الحجا من قال إنّي…
لست أدري!
كل هذه السيولة وهذا التيه وهذه السرابية المنهكة، سببه المنظورات الكونية الجزئية المتنافرة الموغلة في التجزيئية المنغلقة على نفسها، التي تضيِّق دائرة وعي الإنسان بحقيقته وحقيقة الحياة والكون من حوله، وحقيقة علاقته بهذه الحياة وهذا الكون، وحقيقة علاقة الإنسان والحياة والكون بالله خالق ذلك كله ومدبره ومالك مصيره، وحقيقة المسخرات الكونية التي وضعت تحت تصرف الإنسان لكي يؤدي أمانة خلافته في الأرض على وجهها الصحيح، ويعِدَّ نفسه عبرها للحياة الأخروية الخالدة.
أهمية المنظورات السننية الكونية الشاملة:
أخي العزيز محمد إبراهم خاطر: المنظورات السننية الشاملة المطابقة للفطرة الكونية، هي وحدها القادرة على منح الأفراد والمجتمعات القدرة على الأصالة والفعالية والتكاملية والتوازن واطرادية العطاء. أي القدرة على تحقيق إنسانية الإنسان والارتقاء بها إلى قمم الإحسان الذاتي كأفق تتحرك نحوه الحياة الفردية البشرية من ناحية، والقدرة على تحقيق إنسانية المجتمع والارتقاء بها كذلك إلى قمم الإحسان الاجتماعي والحضاري كأفق وقطب تتحرك نحوه المجتمعات الإنسانية من ناحية أخرى.
أخي العزيز محمد إبراهم خاطر: أود في هذه الرسالة أن أضع بين أيديكم بعض المعالم التي تؤكد مدى الأهمية البالغة بل والضرورة القصوى لمنظور السننية الشاملة، الذي يضع القرآن خاصة والوعي الرسالي عامة، والوعي والخبرة البشريين بصفة أعم، خريطته الكلية بين أيدينا.
وفيما يلي بعض هذه المعالم:
- قيمة الفرد من قيمة المجتمع: قيمة الفرد ومكانته في واقع الحياة، تأتي من قيمة ومكانة واقع مجتمعه في الحياة. فأنت إنسان مكفول الحقوق والكرامة والقيمة، ما دمت تعيش في مجتمع يحترم الإنسان ويقدر قيمته، ويكفل حقوقه، ويمكِّنه من أداء واجباته بالكفاءة والفعالية والروحية الأخلاقية المطلوبة.
- قيمة المجتمع من قيمة نهضته الحضارية: وأن قيمة ومكانة مجتمعه في واقع الحياة، تأتي من قيمة ومكانة نهضته الحضارية في عصره. فالمجتمع الذي حقق نهضته الحضارية، أو في طريقه إلى تحقيق نهضته الحضارية، يمكنه أن يوفر شروط كفالة قيمة ومكانة وكرامة كل فرد فيه، ويعمق لديه الولاء لمجتمعه والاعتزاز به، ويدفعه إلى المزيد من الإنجاز والإبداع لتعزيز مكانة مجتمعه في عالمه.
- فشل النهضة وتيه الفرد والمجتمع واستلابهما: والمجتمع الذي يفشل في تحقيق نهضته الحضارية المتوازنة، يتعذر عليه كفالة قيمة ومكانة وحقوق مواطنيه، ويتركهم عرضة لأشكال شتى من الاستلابات الحضارية المتنافرة، التي تنهك قواهم، وتستنزف طاقاتهم فيما لا يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع والصلاح.
- النهضة الحضارية مركز ثقل المجتمعات: فالنهضة الحضارية هي القضية المركزية الأم لكل مجتمع في الحياة، فمن حققها من المجتمعات، فقد امتلك شروط ومقومات القيمة والمكانة والفعالية في الحياة، ومن فشل فيها فقد عرَّض وجوده لمخاطر الضعف والفتنة والغثائية والتبعية الحضارية المهينة، لأن منطق المدافعة والمداولة الحضارية يرفض الفراغ، ويدفع بالمغلوب إلى تقليد الغالب والاستلاب له، وهو ما يغريه بالإمعان في إذلاله، وامتهان كرامته، وهدر مقدراته، وتعميق القابلية للتبعية لديه.
- النهضة الحضارية محصلة معرفة وثقافة النهضة: وهذه النهضة الحضارية المتوازنة، المحرِّرة للطاقات الإبداعية للمجتمع، والشاحذة لإرادته الحضارية، والملبِّية لضروريات وحاجيات وتحسينيات الحياة الفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية لكل فرد ومؤسسة فيه، لا تتحقق إلا عبر معرفةِ وثقافةِ النهضة الحضارية المتوازنة.
- النهضة الحضارية محصلة وعي النخبة بمعرفة وثقافة النهضة: فالنهضة الحضارية ذات العمق والأفق الإنساني الروحاني والأخلاقي والعمراني الراقي، الدافع بإنسانية الإنسان إلى أعلى مستويات كمالها، هي محصلة معرفة وثقافة سننية أصيلة وفعالة وتكاملية ومطرة في التاريخ، تحملها نخبة المجتمع، وتعمم الوعي بها لدى كل أجياله، وترسِّخ العمل بها في جميع مؤسساته ومناهج عمله.
- المعرفة والثقافة السننية المطابقة للفطرة الكونية: وهذه المعرفة والثقافة السننية المنتِجة للنهضة الحضارية المتوازنة، هي المعرفة والثقافة السننية المطابقة لحقائق الأشياء والفطَر الكونية كما خلقها الله تعالى، وهيَّئها لتكون مسخَّرة للإنسان لكي ينجز بها خلافته في الأرض، ويستمتع بثمراتها الدنيوية، ويحضر بها حياته الأخروية الخالدة.
- المعرفة السننية موزعة على أربع ساحات كونية: وهذه المعرفة السننية المنتِجة للثقافة السننية المؤثرة على حركة الحياة الدنيوية والأخروية للإنسان، والصانعة للنهضة الحضارية المتوازنة، موزعة على أربع ساحات كونية كلية متكاملة، يغطي كل منها جانبا من جوانب حركة الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وينمِّيه ويحقق له الإشباع المطلوب.
- ساحات السنن الكونية الأربع: وتتمثل هذه الساحات السننية الكونية الكلية الأربع، في ساحة أو منظومة سنن الله في الآفاق، وتغطي كل ما يتعلق بسنن الإدارة المادية للحياة. وساحة أو منظومة سنن الله في الأنفس، وتغطي كل ما يتعلق بسنن الإدارة الفكرية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والحضارية للحياة. وساحة أو منظومة سنن الله في الهداية، وتغطي كل ما يتعلق بسنن الإدارة الغائية العقدية والروحية والأخلاقية والسلوكية العالية للحياة. وساحة أو منظومة سنن الله في التأييد، وتغطي كل ما يتعلق بسنن شحذ الصلة الروحية للإنسان بالله تعالى، والارتقاء بها إلى ذرى الإحسان، الذي تنعكس آثاره على كل حركة أو سكنة في حياة الإنسان وحركته الفكرية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والحضارية بصفة عامة.
- تفرد كل ساحة سننية كونية بتغطية مجال حياتي محدد: وهذه الساحات أو المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع، التي تتوزع فيها سنن الحياة كلها، لا يغني بعضها عن بعض، ولا يمكن لبعضها أن يحل محل بعض أو يعوضه بأي حال من الأحوال، لأن كلًا منها يغطي جانبا محددا من جوانب الحياة، ويحقق للإنسان الإشباع المطلوب فيه.
- ضرورة الأخذ بمعطيات الساحات السننية الأربع: ولهذا فإن تغطية كل جوانب حركة الحياة الفردية والجماعية، وتحقيق الأصالة والفعالية والتكاملية والتوازن المطلوب فيها، يسلتزم الأخذ بجميع المعطيات السننية الموزعة في هذه المساحات أو المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع، كل في مجالها الحيوي الخاص بها.
- حاجة كل فعل إنساني إلى معطيات الساحات السننية الأربع: فالفعل الإنساني فرديًا كان أم جماعيًا، بسيطًا كان أم مركبًا، في حاجة إلى معطيات من كل ساحة أو منظومة من هذه المنظومات والساحات السننية الكونية الكلية الأربع، حتى يستكمل ويستوفي “دورته الإنجازية” الكلية، ويخرج إلى حيز الوجود أصيلًا وفعالًا وتكامليًا، وقابلًا للإطراد والتأثير التاريخي الطويل المدى.
- الفعل الإنساني والطاقة الرباعية الدفع: إن أصالة وفعالية وتكاملية واطرادية تأثير الفعل الإنساني في التاريخ، تتوقف على حجم ونوعية طاقة الدفع التي تقف وراءه، فإن كانت هذه الطاقة رباعية الدفع، جاءت “دورته الإنجازية” في منتهى أصالتها وفعاليتها وتكامليتها واطراديتها الطويلة المدى، وتنامي تأثيرها الحاسم فيما حولها من أفكار وأشياء وأشخاص وعلاقات، وإن كانت طاقة الدفع جزئية منقوصة، أي واحدية أو ثنائية أو ثلاثية فحسب، جاء تأثير الفعل منقوص الأصالة أو الفعالية أو التكاملية أو لاطرادية التاريخية بحسب ذلك.
- المؤثرات الحاسمة في الفعل الإنساني وحركة النهضة الحضارية: فالمؤثرات الحاسمة في الفعل الإنساني وفي حركة النهضة الحضارية الإنسانية عامة، موجودة في هذه الساحات أو المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع المتكاملة، والموقف الوظيفي منها هو الذي يحدد طبيعة وحجم فاعلية الإنسان في الحياة وفي حركة التاريخ.
- المعرفة والثقافة السننية والمنظور السنني الكوني: وهذه المعرفة والثقافة السننية الشاملة المتوازنة، التي تغذي كل جوانب الحياة الإنسانية، وتنمِّيها بشكل متوازن ومتكامل وفعال، هي محصلة منظور سنني كوني كلي متوازن الأبعاد، تحمله نخبة المجتمع، وتعمم الوعي به لدى كل أجياله، وترسِّخ العمل به في جميع مؤسساته ومناهج عمله.
- المنظورات السننية الكونية مركز الثقل في الوعي الإنساني: فالمنظورات الكونية للناس هي التي تحدد رؤاهم للحياة، وتحكم موقفهم من الساحات أو المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع، التي تتوزع فيها أو عليها المعطيات السننية الناظمة لحركة الحياة البشرية، والدافعة بها نحو المداولة الحضارية الإنسانية التكاملية الصاعدة، أو نحو المداولة الحضارية الاستكبارية التنافرية المنهكة، وليس هناك إنسان في الوجود ليس له منظور كوني يرى ويدير من خلاله حياته وعلاقاته مع الله والكون والحياة والناس، بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك المنظور.
- فالمنظور السنني الكوني الكلي المتوازن الأبعاد، ونعني به هنا منظور السننية الشاملة، هو نقطة الانطلاق المحورية في بناء معرفة وثقافة سننية شاملة ومتكاملة، تنتج لنا شخصية إنسانية متوازن ابتداء، ونهضة حضارية إنسانية متوازنة انتهاء.
- الحركة الحضارية ومنظور السننية الشاملة: وأشمل المنظورات السننية الكونية وأكملها، وأكثرها استيعابًا للوعي بمحركات التاريخ الأربعة السابقة، هو منظور السننية الشاملة الذي يعرضه القرآن الكريم، ويدعو الإنسانية إليه، لأنه منظور منفتح على سنن الحياة في كل الساحات أو المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع.
منظور السننية الشامل إطار فكري ومنهجي لتحليل الظواهر وتفسيرها: أخي العزيز محمد إبراهيم خاطر: لو قرأنًا ودرسنا القرآن والخبرة البشرية عامة، وحللنا الواقع الإنساني الفردي والجماعي وشخصناه، واستشرفنا مستقبله، على ضوء خريطة منظور السننية الشاملة، لتغيرت الكثير من الأوضاع في حياتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية، ولأعدنا تشكيل خرائطنا الذهنية، وطرائقنا السلوكية، ومناهجنا العملية، وعلاقاتنا الاجتماعية فيما بيننا كمسلمين، وفيما بيننا والعالم، وفيما بين العالم والكون عامة.
مسؤولية مدربي التنمية البشرية في نشر الوعي بمنظور السننية الشامل: أخي العزيز محمد إبراهيم خاطر: إنني أعتقد بأن أمثالكم من المشتغلين في ميادين التنمية البشرية، وفنون الإدارة الفعالة للحياة، لكم مسئولية كبيرة تجاه نشر الوعي بهذا المنظور السنني الكوني الكلي المتكامل، بما تملكونه من تقنيات ومهارات تبليغية فعالة ومؤثرة، قد لا يمكلها غيركم.
خطورة انفصال الإمكانات المهارية عن مؤطراتها السننية الكلية: أخي العزيز: إنني أرى بأن فنون التنمية البشرية لا تستكمل فعاليتها الوظيفية الإيجابية، ولا تمتص منها بعض جوانبها السلبية الوظيفية، إلا إذا تحركت في إطار الوعي بمنظور السننية الشاملة، الذي يضع التقنيات والمهارات الفنية التبليغية الفعالة التي توفرها لنا هذه التنمية البشرية، في سياقها الصحيح، ولا تبقى مجرد مهارات فنية تنمي القدرات الإنجازية العالية لدى الإنسان، التي يمكن أن تستعمل في الإضرار بالإنسان نفسه وبغيره من الأفراد أو المجتمعات أو البيئة الطبيعية والكونية!
أخي العزيز الأستاذ محمد إبراهيم خاطر: إن المهارات والتقنيات والإمكانات التي تتاح للإنسان أو المجتمع، تمنحه قوة وفعالية غير عادية، فإذا لم يتوفر لها التأطير الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي والاجتماعي المتوازن، تحولت إلى طاقة سلبية خطيرة، يمكن استغلالها في تحصيل المنافع والملذات والإشباعات غير المشروعة، التي تلحق الأذى بصاحبها وبالناس.
من هنا نحن في حاجة ماسة ودائمة إلى المؤطرات السننية المتوازنة، التي تحافظ على هذه الطاقة الإمكانية والمهارية أو الفنية العالية من ناحية، وتستعملها استعمالًا رشيدًا فعالًا من ناحية أخرى، وذلك لا يمكن أن يتحقق على وجهه الصحيح، إلا عبر الاستثمار المتوازن للمعطيات السننية المتكاملة، التي يرشدنا إليها منظور السننية الشاملة في الساحات الكونية الأربع التي سبق الحديث عنها.
هذا هو طريق النهضة الحضارية الإنسانية المتوازنة، الذي يؤسس له منظور السننية الشاملة، ويدعو إلى الأخذ به في فهم الحياة بشكل صحيح، وإدارتها بشكل فعال، يمتص الكثير من سلبياتها ويقلل من تأثيراتها المضرة.
أتمنى أن تلتفت النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية إلى أهمية هذا المنظور، وتساهم في تأسيس وتعميم الوعي به، وتحويله إلى معرفة وثقافة عامة سارية في كل تفاصيل حياة المسلم خاصة وحياة الناس عامة.
أخوكم ومحبكم الدكتور الطيب برغوث